تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فعارضوا الغلو في معاقرة الشهوات المحسوسة بالامتناع عن جنسها، ولهم في ذلك حكايات ونوادر عجيبة صنفت فيها المصنفات فصارت من جملة الكرامات فهي عندهم وعند من سار على طريقتهم الغالية من غلاة المتزهدة من الإسلاميين، هي عندهم: أمارات على صحة الديانات وكمال الهيئات!، فذلك غلو في الامتناع يقابل الغلو في المباشرة، فـ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، فذلك من الاستفهام الإنكاري الإبطالي لنسبة التحليل أو التحريم إلى غير الرب الشارع، جل وعلا، فلا يملك أحد تحريم ما أحله من زينة أضيفت إليه إضافة مخلوق إلى خالقه إمعانا في تقرير معنى الإباحة، وطيبات من جنس الأرزاق النازلة، فـ: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ): فذكر آية كونية تدل على كمال الربوبية ثم ثنى بلازمها من التكليف الشرعي على ما اطرد في التنزيل من اقتران تصور الربوبية علما بلازمه من حكم الألوهية عملا، فبهما يكتمل الإيمان: قولا وعملا، فقول علمي في القلب وآخر على اللسان، وعمل يصدقه باطنا بأجناس الخوف والخشية والرجاء ......... إلخ وظاهرا على اللسان ذكرا والأركان ركوعا وسجودا وطوافا وسعيا وقتالا ..... إلخ.

وبينهما التوسط في الاعتقاد والعمل الذي جاء به الوحي فهو جوهر الرسالات، فقد جاءت بمعادن التوسط في العلوم والأعمال، فـ: (كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).

والزمام والخزام، كما تقدم، شعائر ظاهرة، فآثارها المحسوسة تظهر على البدن، والرهبانية والتبتل والسياحة، وإن كانت، أيضا، من المسالك العملية الظاهرة إلا أن فيها نوع استتار فجانب التخلق المعنوي فيها أقوى من جانب الظهور كشعار يظهر أثره على البدن، فهي مسالك عملية تتولد من أخلاق باطنة، فيقابل الغلو المادي، كما تقدم، بضده من الغلو المعنوي، والجمع بين هذه الصور من الغلو في معرض النهي لا يدل على تخصيص معنى الغلو الجامع بها، بل ذكرها يجري مجرى التمثيل لمعنى عام بجملة من أفراده، وذكر بعض أفراد العام لا يخصصه، وإنما خصت بالذكر لأنها أظهر صور الغلو العملي، فجاء التنويه بها، فالغلو عادة ما يكون في هجر الشهوات المحسوسة من مطعوم فالرهبانية تقتضي الامتناع عن أكل اللحم، كما ذكر ذلك ابن الأنباري رحمه الله في "الزاهر"، بل وتقتضي الامتناع عن جنس الطيبات المباحة من مطعوم أو مشروب تلتذ به النفس، بل وتقتضي صورا من المشقة برسم التكلف تعذيبا للبدن، وهو ما جاء النهي عنه، فـ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)، وقد أشار صاحب "اللسان"، رحمه الله إلى جملة منها في مادة "رهب" فأصلها الخوف وهو مما يحجز النفس عن مباشرة الشهوات، ثم زيد فيه عن القدر الواجب، فذلك، كما تقدم، معدن الغلو بالإفراط في خلق باطن أو عمل ظاهر، بل قد وصل الأمر، كما تقدم إلى صور من التعذيب البدني بغل الأعناق بالسلاسل والاختصاء ..... إلخ، فجاء النهي عن ذلك، وجاء البديل الصحيح النافع فـ: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم"، فذلك من قبيل شغل المحل بالحق لئلا ينشغل بالباطل، فلم تخلق النفوس لتكون محالا شاغرة من التصورات والإرادات، بل لا بد لها مما يشغلها من:

حق معدنه وحي الرحمن، فـ: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ)، فعلم الكتاب الذي نزل به الروح الأمين، فالنبوة هي المشكاة التي تتلقى منها التصورات العلمية الصحيحة والإرادات القلبية النافعة والأعمال البدنية الصالحة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير