تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بمعاني الوحي النازل في دار الابتلاء والخلاص في دار الجزاء، وذلك مما تنشط له كل الهمم، ولو خسيسة، فلا يجد الرأس أفضل من دعاية الدين، ولو باطلا، لتجييش الأتباع فتتسابق الأبدان انتصارا للأقوال، ويقع التدافع الكوني بين المختلفين، ليظهر بذلك من آثار قدرة وحكمة رب العالمين ما يدل ضرورة على كمال وصفه الذاتي والفعلي.

والصرف الذي صدرت به الآية من الوصف الفعلي، فهو، بدلالة مجيئه على حد المضارعة التي تدل على الزمن الحاضر والزمن المستقبل، من وصف فعل الرب، جل وعلا، الذي يتعلق بمشيئته النافذة، فيحدث من آحاده ما شاء برسم التجدد، فالنوع أزلي برسم الأولية المطلقة الثابتة للرب، جل وعلا، ذاتا ووصفا، فله الكمال الذاتي والوصفي أولا وآخرا، فذلك، كما تقدم مرارا، من معاني اسميه المتقابلين: الأول والآخر فبهما ثبت له كمال الإحاطة الزمانية فأول قبل كل شيء، وآخر بعد كل شيء، وعليم بكل شيء، والمضارعة من وجه آخر مما تستحضر به صورة العقوبة في الذهن، فهي عقوبة كونية نافذة، من جنس عقوبة الطبع الكوني النافذ على قلوب أعداء الرسل عليهم السلام، فالصرف من جنس الطبع، بل لعله لازمه الضروري، فيطبع على القلب برسم الختم بعدم الفقه، فـ: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، فينصرف القلب عن الآيات الكونية تدبرا، والشرعية تلاوة وتصديقا بالقول والفعل، فيكون الصرف فرعا على الطبع، فقد سدت المنافذ، فأقفر القلب من مادة الخير والصلاح فليس فيه من مادة التوفيق شيء، وإن حصل له الإرشاد بحجة الرسالة الباهرة، فبها بعث الرسل عليهم السلام: (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)، فصرفت قلوب الذين يستكبرون في الأرض بغير الحق، وتلك صورة أخرى جاءت، أيضا، على حد المضارعة، فذلك، أيضا، آكد في التنفير من الجرم، فالكبر فيهم ملكة راسخة، فيدور حكم الصرف عن الآيات مع وصف الكبر الذي اشتقت منه الصلة المضارعة، يدور معه وجودا وعدما، فهو، كما تقدم، من الوصف الفعلي الذي تتجدد آحاده بتجدد مشيئة الرب، جل وعلا، إيقاعه، فمنه ما يعلق بمعنى يدل عليه اسم يقع على مسماه الذي يصح تعليق الحكم عليه فهو وصف مؤثر، فوصف الكبر: وصف مؤثر في إيقاع عقوبة الصرف الكوني، فيكون وقوعه من قبيل وقوع المسبَّب بتجدد وقوع سببه، فهو لازمه في الذهن وتابعه في الخارج، فيتصور الذهن السبب أولا، ثم يتصور ما ينبني عليه من المسبَّب، ويقع السبب في الخارج أولا، ثم يقع المسبَّب عقيبه، فتلك سنة الكون الجارية، فالأسباب تؤدي إلى مسبَّباتها بما ركز الرب، جل وعلا، فيها من قوى التأثير، ولا يكون ذلك إلا بمشيئة كونية نافذة، فالسبب وإن كان فاعلا في نفسه إلا أنه يفتقر إلى جملة أسباب تعضده، وجملة موانع تنتفي لئلا تنقضه، وكل سبب يرجع إلى آخر حتى تنتهي سلسلة الإسناد الكونية إلى سبب أول لا سبب وراءه هو الكلمة الكونية النافذة التي تصدر عن المشيئة الربانية الكاملة، ومن أوصاف الفعل الرباني ما لا يتعلق بسبب، فيوقعه الرب، جل وعلا، بمشيئة محضة، فـ: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، فلا يسأل لكمال قدرته وحكمته، وهم يسألون على جهة المقابلة بين النفي والإثبات، فيسألون لقيام نقيض أوصاف الرب، جل وعلا، بهم، فيثبت لهم ضد الحكم بثبوت ضد الوصف فذلك من الطرد والعكس القياسي الذي يثبت في العقول الصريحة بداهة، فمن ذلك وصف النزول برسم: "مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ"، فذلك محض رحمة وفضل تظهر به آثار أوصاف جماله، جل وعلا، كما يظهر أثر وصف جلاله من نزول كلمات العذاب، فـ: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ)، فجاء الأمر الكوني النافذ المعلق بالمشيئة لدلالة "لما" التوقيتية، جاء بعذاب الاستئصال فظهر بذلك من آثار جلال وعدل الرب، تبارك وتعالى، ما ظهر.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير