تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من النقصان، ولذة دار آجلة فيها الكمال المطلق حسا ومعنى، فلا فضلات في أمعاء أهل الجنة تستقذر النفوس منها، ولا تغير في أبدانهم بثقل ونوم ومرض وموت من مباشرة مطعومات الدنيا التي لا تنفك عن وجه فساد مع عظم المنة بتيسيرها فهي من أظهر دلائل العناية الكونية لكثرة مباشرة النفوس لها، فلا تنفك مع ذلك عن وجه من وجوه الفساد لا سيما إذا أفرط الإنسان في تعاطيها فـ:

فإن الداء أكثر ما تراه ******* يكون من الطعام أو الشراب

فاكتفاء الإنسان بقدر من المطعوم يسد حاجته، هو عند التدبر والنظر، دليل آخر من أدلة الحكمة الربانية بوقوع المسبَّب من شبع تسكن به النفوس عقيب مباشرة سببه من تناولٍ لمطعوم برسم سد الفاقة الضرورية بمقتضى الجبلة الآدمية التي تفتقر إلى أسباب الشرع لتقيم أود الروح، وأسباب الكون لتقيم أود البدن، وهو أيضا، دليل آخر من أدلة العناية بالنوع الإنساني لئلا يفسد بدنه بما زاد عن حاجته فهو ذريعة إلى وقوع الضرر بعد أن كان مظنة النفع، وذلك معنى لطيف أشار إليه الغزالي، رحمه الله، في "الإحياء" بقوله:

"ثم هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدار الحاجة أسرفت وأهلكت نفسك فخلق الله لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها لا كالزرع فإنه لا يزال يجتذب الماء إذا انصب فى أسفله حتى يفسد فيحتاج إلى آدمى يقدر غذاءه بقدر الحاجة فيسقيه مرة ويقطع عنه الماء أخرى". اهـ

فالنبات لا يملك رد فضلة الغذاء بخلاف الحيوان الحساس المتحرك فإنه يملك ردها فيترك الطعام أو يرده إذا شبع، وأكمل الأحوال: حال الإنسان فإن قلة المطعوم في حقه محمدة في كل الشرائع والطرائق، فالغالب على ذوي الكمال الإقلال من المطعوم الذي يشترك فيه مع عامة الكائنات العجماوات فحسن فراقها في قدر الصفة، برسم الاعتدال لا برسم الغلو الذي يضرب فيه صاحبه عن الطعام كما هي حال أصحاب الطرائق الرياضية الزهدية المحدثة برسم الرهبنة والتعبد بما لم يشرعه الله جل وعلا أو يقل منه قلة تضعف بدنه فكل ذلك من الغلو المذموم، فحسن فراق الدواب في قدر الصفة إن لم يكن ثم مناص من مفارقتها في أصلها فلا ينفك الإنسان عن حاجة ضرورية إلى المطعوم فذلك كما تقدم مما يحصل به الفرقان بين الرب، جل وعلا، والعبد، فيذل العبد إذ ينظر في حاله عند جوع أو عطش يكون فيه فقيرا مستكينا طالبا لسبب خارج عن ذاته يحفظ به مهجته فلا يصح في حق مثله تكبر أو تجبر فكيف بادعاء ربوبية أو ألوهية بلسان المقال أو الحال؟!.

فيحدث الشبع بتناوله لما ركز فيه من قوى الإشباع التي لا تعمل، أيضا، إلا وفق الإرادة الربانية النافذة، والحكمة الربانية البالغة في مباشرة الغذاء لمراكز الإحساس بالجوع فتسكن بعد هياج وتهدأ بعد ثورة هي أيضا مما يحصل به التمايز بين وصف الرب الكامل، فلا يفتقر، جل وعلا، كما تقدم مرارا، إلى سبب يقيمه، ووصف المخلوق الذي لا يستغني عن سبب يقيم النفس من روح الشرع وحيا ونبوة تطهر بها النفوس برسم التزكية بعلم الكتاب والحكمة فتلك من أعظم المنن الربانية فـ: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)، ومن روح الكون: هواء وطعاما وشرابا ونكاحا فهو مما يقيم البدن ويحفظ النسل، وهو من صور العناية الربانية التي يغفل كثير من البشر عن مطالعتها لما أصيبت به النفوس من إلف النعمة فصارت عادة يباشرها الإنسان برسم الرتابة بل قد يشتكي الملل من تكرارها!، فلا يعرف خطرها إلا عند فقدها، وذلك، أيضا، معنى لطيف أشار إليه في "مختصر منهاج القاصدين" في معرض حكاية أسباب الغفلة عن النعم، فقال:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير