تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ: فالإطلاق مظنة العموم المعنوي، فالسبب وإن كان خاصا إلا أن معناه يعم كل علماء السوء في كل الأعصار والأمصار، فشؤمهم، كما تقدم، عام في كل عصر ومصر، فالعبرة بعموم المعنى لا بخصوص السبب، فخلف: خلف: يطلق على القليل والكثير فتلك دلالة المصدر إذا أخبر به أو وقع نعتا، كما أشار إلى ذلك أبو السعود، رحمه الله، فينزل منزلة اسم الجنس الذي يدل على القليل والكثير، فضلا عن دلالة النكرة على معنى الكثرة فهي مظنة العموم والشيوع، فقد يقلون في زمان تكون أعلام الدين فيه ظاهرة، وقد يكثرون في زمان كزماننا أعلام الدين فيه خافية بل تكاد آثار الوحي فيه تندرس في بعض الأمصار لهيمنة أعداء النبوات على مقاليد الحكم برسم الجور والظلم وهو مما يناقض بداهة حكم النبوة العادل، والتنكير من وجه آخر مئنة من التحقير، فهم فئة حقيرة المعنى وإن كانت كثيرة المبنى فقد صار ذلك رسما عاما لجملة كبيرة من المترسمين برسم العلم، وهم أشد الناس تعطيلا لأخباره بالكتمان وأحكامه بالمخالفة والعصيان، والخلف في حد ذاته: نص في الذم، فتسكين اللام يجعل الخلف نصا في الطالح، كما قد نقل ذلك البغوي، رحمه الله، عن ابن الأعرابي، رحمه الله، أو يكون الفتح والتسكين سواء في الطالح ويختص الصالح بالتحريك، كما قد قال النضر بن شميل، رحمه الله، أو يكون الغالب في التحريك الإشارة إلى: الصالح، وفي التسكين الإشارة إلى: الطالح، وإن جازت الإشارة بكل إلى الآخر كما قد قال ذلك ابن جرير الطبري رحمه الله.

فخلف: خلف: وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ:

فأطنب في وصفهم في معرض الذم: فورثوا الكتاب، فدلالة "أل" بالنظر إلى خصوص السبب: عهدية تشير إلى التوراة، وبالنظر إلى عموم المعنى: جنسية استغراقية لعموم ما دخلت عليه فيعم الذم كل من ورث كتابا منزلا فعلم منه ما علم، وعطل من أحكامه ما عطل، وقد كان الأولى في حقه التصديق والامتثال فعنده من الهدى والبينات ما ليس عند غيره من عموم المكلفين، فصار العلم في حقه نقمة، فلم يستعمله إلا في تحصيل العرض الأدنى:

يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى:

فالمضارعة مئنة من الحدوث والتجدد، فذلك وصف لازم لعلماء السوء، كما قد نقل البغوي، رحمه الله، عن السدي، في حكاية حال قضاة بني إسرائيل، وهو معنى، كما تقدم، يعم كل علماء السوء وقضاة الجور في كل زمان ومكان.

ولا يخلو من استحضار لتلك الصورة القبيحة إمعانا في التنفير منها.

فيقولون: سَيُغْفَرُ لَنَا:

فتلك من الأماني التي تدل على فساد القوة العملية فلم تصبر تلك المحال الخبيثة على تأويل ما قد يسر لها من العلوم الرسالية، فأقيمت الحجة وتوافرت أسباب القوى العلمية الباطنة، ولكنها لم تنتج في تلك المحال البطالة قوى إرادية باطنة أو قوى عملية ظاهرة، بل فسدت حالهم الباطنة برسم الخلود إلى الأرض، وفسدت حالهم الظاهرة فصدوا عن السبيل وصدوا غيرهم عنه، فشؤمهم لازم في أنفسهم حتى ترى كثيرا منهم لا يلتزم بالفروض الرئيسة، وشؤمهم متعد لغيرهم فيهونون بلسان المقال أو الحال: مخالفة شريعة السماء، ويمنون أنفسهم بما يسكن الضمائر من شبهات يتوهمون أنها محكمات، كما أشار إلى ذلك بعض المحققين من أهل العلم.

ونكر العرض تحقيرا في قوله تعالى: (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ)، والإشارة في قوله تعالى: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى) للتحقير فهي من جنس الإشارة في قوله تعالى: (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا)، وإن كان الواقع بخلاف ذلك فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم العظيم وعدوه هو المكبوت الحقير.

ثم جاء الإطناب في بيان تجدد وصف الذم في حقهم:

وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ:

فذلك من جملة ما تقدم من الأماني الكاذبة.

ثم جاء الاستفهام على جهة الإنكار والتوبيخ إمعانا في تقرير الحجة الرسالية التي درسوها ثم نبذوها:

أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ:

فالنص على دراستهم مما يقطع كل حجة فلم يكن الترك برسم الجهل أو الخطأ أو النسيان بل مع تمام العلم والتقصد فانتفت في حقهم كل عوارض الأهلية التي يلتمس بها العذر في هذا الباب وفي عامة أبواب الدين علمية كانت أو عملية على تفصيل في ذلك.

وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ:

فذلك من التنزل مع المخالف، فلا خيرية في الدنيا الفانية إن قورنت بالآخرة الباقية، فهي خير للذين يتقون فذلك من التعريض بخصومهم فليس لهم بدلالة المفهوم حظ من التقوى التي تحمد في كل الطرائق والشرائع ولو أرضية محدثة فهي مظنة التقلل والتزهد الذي تستحسنه النفوس بما جبلت عليه من الخير.

ثم جاء التذييل باستفهام إنكاري آخر: أَفَلَا تَعْقِلُونَ: يؤول في معناه إلى الأمر: فاعقلوا واعتبروا بحال أسلافكم فإن سرتم على طريقتهم في الكتمان والتحريف نالكم ما نالهم من شؤم العقوبة في الأولى والآخرة فذلك مقتضى القياس الصريح بالتسوية بين المتماثلين في الحكم إن استويا في الوصف.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير