تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فمن ذا الذي يقدر على معارضة الحجة الرسالية المحفوظة بشبهات عقلية ممجوجة، فلا يقبلها أي عاقل، ولو مخالفا للحق لا يقر به، فما تعلق بنفسه من آثار الفطرة الأولى، وما ركز فيه من قوى العقل الصريح، يمج تلك المقالات والحجج، فلا يقبلها إلا على مضض التقليد، فإن كان حرا قد رزق نفسا تأبى الانقياد لغير الحق، فإن ذلك يحمله على ترداد النظر في النبوات، فهي معدن الهداية والنجاة في هذا الباب، فإذا نظر بعين الإنصاف والافتقار إلى الرب، جل وعلا، فلن يهتدي إلا من سبقت، فأولئك المبعدون عن جحيم الحيرة والقلق في دار التكليف فـ: (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، وجحيم العذاب في دار الجزاء، فإذا نظر بعين الإنصاف والافتقار تبين له جزما صحة الرسالة الخاتمة وصدق صاحبها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فدلائل نبوته المعقولة والمحسوسة قد تواترت فلم تبق لمنصف حجة إلا أن يسلم لصاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمنصب النبوة الخاتمة فـ: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)، وأعظمها الكتاب العزيز فهو المعجزة المعنوية الباقية برسم الحفظ المؤبد فالألفاظ سالمة من التبديل، والمعاني سالمة من التحريف فـ: "لا تزالُ طائفةٌ من أمّتي على الحقِّ ظاهرين. لا يضُرُّهُم من خالَفَهُم. حتى يأتي أمرُ الله"، فيحفظ الرب، جل وعلا، بهم الحق، فعندهم من العلم بالمشتبهات ما ليس عند غيرهم، وعندهم من أصول الاستدلال الصحيح بتحرير المنقول إسنادا والمعقول بيانا لمعاني المنقول وإزالة لمشتبهه برده إلى محكمه، فتلك طريقة الراسخين الذين يعلمون من معاني الوحي ما لا يعلمه غيرهم، فذلك وجه الوقف على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)، فذلك من المتشابه الإضافي أو الجزئي الذي يزول إجماله برده إلى البيان المحكم في مواضع أخرى من الوحي المنزل: كتابا أو سنة، وعندهم من صحة الإرادة ما ليس عند غيرهم، فذلك وجه الوقف في قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)، فلا يعلم المتشابه الكلي كحقائق الغيبيات من إلهيات وسمعيات لا يعلمها إلا الرب، جل وعلا، وإن علم الراسخون من معانيها جملة عظيمة يحصل بها كمال الانتفاع في الدنيا طمأنينة في القلب وفي الآخرة نوالا لرضا الرب جل وعلا، فلا يسلم لذلك إلا صحيح الإرادة راسخ القلب فلا يزيغ عن الحق إلا من فسد تصوره فانقطع مدد النبوات عن قلبه فهو غير عاقل بالنظر إلى عدم انتفاعه بآلة التكليف التي عطلها عن النظر في الوحي بعين الافتقار لهداية لا تنال، كما تقدم، إلا من مشكاة النبوة، وإن كان عاقلا من جهة سلامة الآلة فخطاب التكليف إليه قد توجه، وإن أعرض عنه فعطل عينه عن النظر فيه فذلك تعطيل لجارحة الباصرة المحسوسة، وعطل عقله عن تدبر معانيه والاعتبار بأمثاله ومنها ما صدرت به الآية من التفريق الضروري بين من يعلم فيظهر أثر ذلك على جوارحه قنوتا وخشية، ومن لا يعلم، فالتسوية بينهما تعطيل لملكة البصيرة المعقولة، فالكافر قد وقع في فساد أول بتعطيل قوى الحس الظاهر وفساد ثان يقترن بالأول ضرورة بتعطيل قوى العقل الباطن فلسان مقاله يوم الجزاء: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)، فمتتبع الشبهات قد وقع له من فساد البصر والبصيرة ما صرفه عن اتباع الوحي المنزل: تصديقا لأخباره فذلك غذاء قلبه وامتثالا لأحكامه فذلك غذاء جوارحه، وتلك عقوبة عادلة لكل من أعرض عن النبوة فابتغى الهدى في غيرها بل قد غره شيطانه فراح يتلمس أوجها متهافتة لمعارضتها والطعن فيها، فناله من حججها الداحضة شهب ثاقبة أبطلت شبهاته وفضحت نياته، فلا يسلم صاحب الهوى المعارض للحق الطاعن في النبوة الخاتمة من صور من الجهل الفاضح بنقل باطل أو قياس فاسد، فكل من خالف الحق فإنه سيتناقض لا محالة فيفضح آخر كلامه أوله، فذلك من حفظ الرب، جل وعلا، للحجة الرسالية، فسلمت من المعارضة، لئلا: (يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير