تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كما يفنى الجسد، وإنما تقع الموتة الأولى بمفارقة مادة الحياة اللطيفة آلة البدن الكثيفة فيسارع الفساد إليها، لخسة معدنها فمن الطين قد خلقت في مقابل نفاسة معدن الروح فهي من أمر الرب، جل وعلا، فبه خلقت، على حقيقة لطيفة لا تدركها آلات الحس الغليظة، فيقع الفساد للبدن، وتبقى الروح بإبقاء الرب، جل وعلا، لها، فالموت لا يهدم محل الأنس والمعرفة، كما يقول بعض أهل العلم، فبسبب ما تعلق بالروح من المعارف الإلهية، صارت أهلا للبقاء، فعليها يقع القدر الأعظم من نعيم دار البرزخ أو عذابه والبدن لها في ذلك تابع، فتلك، أيضا، من الحقائق التي غيبت عن مدارك الحس الظاهر ليحصل الابتلاء بتصديق الخبر وإن حار العقل في كنهه فلا يحيله فهو من الممكن الجائز الذي ثبت بخبر الوحي النازل، فصار واجب التصديق لمكان عصمة خبر النبوة الخاتمة من التبديل، أو النقص أو الزيادة.

أو يقال بأن الروح محل التصورات العلمية عموما، ولو باطلة، فأصحاب المقالات الفاسدة، كما تقدم، ينافحون عما علم بطلانه ضرورة، ومع ذلك كان نزاع أتباع الأنبياء معهم في محل الدين: مناط النجاة الأبدية في دار الجزاء الأخروية، كان أشرف من نزاع أهل الدنيا في محل خسيس فلا يتنافس أهل الدنيا إلا على عرض فان من مطعوم أو منكوح ..... إلخ، وتصور حقائقها، كما تقدم، يثير في النفس أنفة أن تنحط إلى دركة التنافس عليها، فلا تحصل النجاة من ذلك إلا بالزهد فيها برسم الاستغناء لا العجز، كما أشار إلى ذلك ابن رجب، رحمه الله، بقوله:

"وأما من زهد فيما في أيدي الناس وعف عنهم فإنهم يحبونه ويكرمونه لذلك ويسود به عليهم كما قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟!، قالوا: الحسن، قال: بم سادهم، قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم وما أحسن قول بعض السلف في وصف الدنيا وأهلها:

وما هي إلا جيفة مستحيلة ******* عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ******* وإن تجتذبها نازعتك كلابها". اهـ

ولا أخس من محل نزاع كهذا، فحري بالعاقل أن يأنف منه فلا يأخذ منه إلا قدر الحاجة، فلا يسلم من هذه الدنيا إلا من أجراها مجرى الضرورة التي تقدر بقدرها فما زاد فهو فضل يثقل كاهل صاحبه فيبطئ سيره إلى الرب، جل وعلا، في رحلة الهجرتين في هذه الدار، ويثقل حسابه في دار الجزاء، فـ: "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ".

فشتان محل نزاع الدين فلأجله بعث الأنبياء عليهم السلام ونزل الوحي وسلت سيوف الحجج والبراهين لمن جادل، وسيوف الحديد الناصر لمن قاتل، فحصلت المدافعة بين أتباع الكتاب الهادي وأتباع الكتاب المبدل، فلا صلاح للدنيا إلا بذلك، فإنه سبب رئيس لذكر الرب الحميد المجيد، جل وعلا، بالدعاء ثناء ومسألة، فكلٌ يسأله، بل الكافر يسأله حال الاضطرار: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)، بل قد سأله أبو جهل لما حانت ساعة المدافعة بين الجمعين يومَ الفرقان،: "اللَّهُمَّ أَقْطَعَنَا الرَّحِمَ وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُهُ فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ"، فاستجاب الرب، جل وعلا، له!، وكانت الدائرة لأتباع النبوة، فالدولة لهم ما كانوا على منهاجها، والدولة عليهم ما حادوا عن جادتها فتلك سنة كونية نافذة تطرد وأصول القياس الصحيح، فالحكم بالظهور على أعداء الوحي، برسم التأييد الرباني، يدور مع علة الاستمساك بالوحي تصديقا لأخباره وتأويلا لأحكامه، يدور معها وجودا وعدما، فلا نصيب لأتباع الأنبياء من وجود حكم: (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) إلا بوجود علة: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير