تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فمن ينكر المجاز يقدر المحذوف على النحو السابق، أو يرد الأمر إلى المعاني المجردة في الذهن، فالقرية مئنة من الاجتماع، فـ: "قريت الماء" إذا جمعته، ومنه قيل للكتاب العزيز: قرآن، فحروفه وكلماته قد جمعت في الخط والنطق، فالمعنى: مطلق الجمع، ومنه: المحسوس كجمع البشر والدور، والمعقول كجمع الحروف والألفاظ، ومنه، وهو محل الشاهد: جمع الجوامد السواكن كالدور، وجمع الأحياء المتحركين فمادة الشعور والإحساس فيهم ظاهرة، فحصل الاشتراك المعنوي بين كل تلك الحقائق مع تباين أعيانها في الخارج فذلك القدر المشترك حقيقة في كلها، فينصرف الذهن إلى المعنى المراد بما يحتف باللفظ من قرائن السياق والحال، فهو حقيقة في كل سياق بالنظر في قرائنه، والقرينة هنا، كما تقدم، ترجح إرادة البشر فمنهم يقع العصيان الذي يستوجب الوعيد بالعقاب بالإهلاك العام أو الخاص كما تقدم.

ومن يقول بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو جواز إرادة كلا معنيي المشترك اللفظي أو كل معانيه إن تعددت، من يقول بجواز ذلك في نفس السياق، فإنه، والله أعلم، قد يجد في هذا السياق شاهدا يستأنس به، فالإهلاك وإن وقع ابتداء للعصاة إلا أن من جاورهم من الأحياء والجوامد لا يسلم من شؤمه، فينال الإهلاك القرية بالبشر، والقرية بالشجر والحجر.

فحقيقة الدار غير حقيقة من يسكنها، وإن صح إطلاق معنى القرية في حق كليهما على جهة الاشتراك اللفظي بالنظر إلى الحقائق المتباينة في الخارج، وعلى جهة الاشتراك المعنوي بالنظر إلى المعنى المجرد في الذهن، فمعنى الاجتماع في كلٍ حاصل، فينظر في كلا الوجهين، كما ينظر في وجه الحقيقة في لفظ القرية، ووجه المجاز فيها، على الخلاف في تعيين قدر الحقيقة فيه، وهل ينصرف إلى البناء أو البشر كما تقدمت الإشارة إليه.

فيريد، الله، عز وجل ذلك بمقتضى التكوين النافذ لا التشريع الحاكم، فإنه لا يأمر بالفحشاء، وإن شاء وقوعها لمصلحة عظيمة، فجهة الأمر الكوني، كما تقدم، تباين جهة الأمر الشرعي، ولما كان الفعل مئنة من القدرة النافذة، حسن إيراده مورد التعظيم، وحسن الإطناب بالمصدر المؤول: "أَنْ نُهْلِكَ"، فالزيادة في المبنى مئنة من الزيادة في المعنى، فضلا عن مجيء الفعل على حد المضارعة ففيه إشارة إلى ديمومة وصف الجلال الرباني لتعلقه بالمشيئة النافذة، وذلك آكد في الثناء على الرب، جل وعلا، بوصف جلاله النافذ، فلم يكن معطلا عنه، فله الإرادة أزلا وأبدا، وإن لم يكن ثم ما يريد وقوعه من المرادات الكونية التي تجري وفق السنن الربانية، ولا يعطل عنه، فـ: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)، فإذا أراد جل وعلا بمقتضى التكوين النافذ أن يهلك قرية:

أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا: على ما تقدم من حسن الإضافة إلى ضمير الجمع في مواضع الجلال، فتقدير الفسق والمعصية عليهم عدلا مئنة من نفاذ القدرة ولا يخلو مع ذلك من حكمة بالغة فبها، كما تقدم، تستخرج المصالح العظيمة التي تفوق مفسدة وقوعها الآنية، فذلك وجه أمرهم بها، فهو أمر تكوين لا تمكن مخالفته، فليس أمر تشريع فذلك مما امتنع في حقه، جل وعلا، لخبر النقل الصحيح، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)، وقياس العقل الصريح فذلك من النقص الذي تنزه عنه الرب، جل وعلا، بل قد أمر، جل وعلا، بما ينهى عن الفحشاء، فذلك أمر التشريع، فـ: (أَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، ونهى عن الفحشاء صراحة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فالمضارعة مما يزيد المعنى تقريرا في الذهن، فجهة الأمر بالفسق تكوينا تباين جهة النهي عن الفحشاء وهي من الفسق تشريعا، فأمر التكوين نافذ يقع الابتلاء بمدافعته أو الصبر والرضا به إن لم يمكن رفعه، فالكفر كما يقول بعض أهل العلم مما لا يرضى عنه بداهة، فلا يرضى به شرعا وإن وقع كونا فهو كالجوع يأثم إن لم يرفعه بالأكل الذي يحفظ مهجته بل أمر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير