1 - روى ابنُ حبَّان في "صحيحه" (4538) عن عائشةَ - رضي الله عنها -: أنَّ رجلاً استأذنَ على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلمَّا سمع صوتَه، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعائشة: ((بئسَ الرَّجلُ، أو بئسَ ابنُ العَشيرة))، فلمَّا دخل انبسطَ إليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلمَّا خرج، كَلَّمتْه عائشةُ، فقالت: يا رسولَ الله، قلت: ((بئسَ الرَّجلُ، أو بئسَ ابنُ العشيرة))، فلمَّا دخل انبسطتَ إليه، فقال: ((يا عائشةُ، شَرُّ النَّاس مَن يَتقِّي النَّاسُ فُحشَه)).
وقد استدلَّ بعضُ أهل العِلم بجواز جرح الرَّجل بما فيه من عَيبٍ بهذا الحديث.
ولكنْ عندَ النَّظر فيه نجد أنَّ هذا الحديثَ ليس أصلاً في ذلك، وإنَّما الحديث له علَّة أخرى قد وضَّحها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهي: ((شَرُّ النَّاس مَن يَتقِّي النَّاس فُحشَه))، فما فعله النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو أصلٌ في التَّقيَّة ومُداراة أصحابِ السُّوء اتقاءً لشَرِّهم، وهكذا كان يفعل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع المؤلَّفَةِ قُلوبُهم، ومع المنافقين.
وقد استدل بهذا الحديثِ أَهلُ الفِتنة في زمننا هذا بالطَّعن في الدُّعاة والتَّحذير منهم، وهيهاتَ لذلك!
فإنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أَلانَ للرَّجل الكلام، ولم يُحذِّر النَّاسَ منه على رُؤوسِ الخلائق، وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أَنصحَ للأُمَّة مِن هؤلاء، فهلْ ألانوا هُم الكلامَ مع مخالفيهم؟! كلاَّ، بل رَمَوْهم بشتَّى أنواع التُّهم والبلايا، فعندما ذَكر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - سوءَ الرَّجل لم يَذكُرْه لكلِّ صحابته، وإنَّما ذَكرَه أَمامَ عائشةَ - رضي الله عنها - فقط، وعندما حدثتْ عائشةُ - رضي الله عنها - بالحديث لم تَذكرِ اسمَ الرَّجل.
2 - الحديث الثاني الذي استُدِلَّ به على ذِكر سُوءِ الرَّجل على النَّاس:
((عن فاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَنَّ أَبا عَمْرِو بنَ حَفْصٍ طَلَّقها الْبَتَّةَ وهو غائِبٌ، فَأَرْسلَ إلَيْها وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ، فَقالَ: وَاللهِ ما لَكِ عَلَيْنا مِنْ شيءٍ، فَجاءَتْ رَسولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فقالَ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ، فَأَمَرَها أَنْ تَعْتَدَّ في بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشاها أَصحابي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ؛ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى، تَضَعِينَ ثِيابَكِ، فإذا حَلَلْتِ فآذنيني، قالَتْ: فلمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعاويةَ بنَ أَبِي سُفْيانَ وَأَبا جَهْمٍ خَطَبانِي، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلا يَضعُ عَصاهُ عَنْ عاتَقِهِ، وَأَمَّا مُعاوِيَةُ، فَصُعْلُوكٌ لا مالَ لَهُ، انكحي أُسامَةَ بنَ زَيْدٍ، فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: انكِحي أُسامَةَ، فَنَكَحْتُهُ فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ بِهِ))؛ رواه مسلم (3770).
استدلَّ أهلُ التَّجريح في هذا العصر بهذا الحديث على هَتكِ حُرمات الدِّين، والطَّعن في حامليه، والدَّاعين إليه، والذَّابِّين عن حِياضه، وهذا الحديث أصلٌ في الشَّهادة والنُّصح، فلم يكنْ فضيحةً على رُؤوسِ الأشهاد، وإنَّما هي نصيحةٌ لِمَن طلبها، وقد وقعوا في جُرْمٍ عظيمٍ عندما ذَكروا أنَّ هذا الحديثَ أصلٌ في الطَّعن والتَّجريح.
ونقول لهم: هل طعن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في معاويةَ؟! وهل طَعن في أبي جهم؟!
لم يكن كلامُ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في معاويةَ طعنًا، وإنَّما هو حكايةُ حالٍ، وأنَّ هذه المرأةَ التي سألتْه الزَّواجَ منه، فأخبرها أنَّه لا يَصلحُ لها أو لا تصلح معه، وليس مع غيرها؛ وإلا فقدْ زَوَّج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلاً فقيرًا لا يَملِكُ إلاَّ ثوبه فقط بما معه مِنَ القرآن.
وأبو جهمٍ كان ضَرَّابًا للنِّساء، وكان حالُ بعضِ الصَّحابة كذلك، ولكن لا يَصلُح هذا الرَّجل مع هذه المرأةِ؛ ولكنَّه صَلَح مع غيرها.
¥