وأمرٌ آخرُ: وهو أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يُحذِّر مِن معاويةَ كلَّ النَّاس، ولم يَنههم أن يُزوجوه ابنتهم، وكذلك أبو جهم، ولكنِ القضيةُ كانت فتوى لشخصٍ، والفتوى تختلف باختلاف الحال والمكان والزَّمان.
ولكن كان الكلامُ في رُواةِ الحديثِ جرحًا وتعديلاً من باب: "دَرء المفاسدِ مُقدَّمٌ على جلبِ المصالح"، ومِن باب: "ما لا يَتِمُّ الواجب إلاَّ به فهو واجب"؛ فلأجل الحِفاظ على حديث النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِنَ التَّحريف والتَّغيير، والزِّيادة والنَّقص والدَّس فيه، لا بدَّ مِن بيان حالِ رُواتِه؛ ولذلك كان الكلامُ في الرُّواةِ من باب الضَّروراتِ الشَّرعيَّة.
قال الإمامُ النَّوويُّ - رحمه الله -: "اعلمْ أنَّ جرحَ الرُّواة جائزٌ، بل هو واجبٌ بالاتِّفاق؛ للضَّرورةِ الدَّاعية إليه؛ لصيانة الشَّريعة المُكرَّمة، وليس هو مِن الغِيبة المُحرَّمة، بل مِنَ النَّصيحةِ لله - تعالى - ورسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يَزلِ فضلاءُ الأُمَّة وأخيارُهم وأهلُ الورع منهم يَفعلون ذلك" [5] ( http://www.alukah.net/articles/1/5582.aspx#______5).
رابعًا: مَن الذي يتكلَّم في الجرح والتَّعديل؟
إنَّ عِلمَ الجرح والتعديل عِلمٌ عميق، لا يستطيع إتقانَه إلاَّ مَن سار على نهج أولئك الحُفَّاظ النُّقَّاد، الذين على يدهم استقام هذا العِلم، وليس هؤلاء الذين خرجوا في عصرنا، وأكبرُهم لم يَعلم عُشرَ مِعشار هذا العِلم، ولم يكن مؤهَّلاً في يومٍ من الأيَّام لهذه المَهمَّة الضَّخمة؛ ولذلك فلا بدَّ مِن معرفة منهج الأوائل في انتقاد الرِّجال وتمييز القويِّ والضَّعيف.
قال العلاَّمة المحدِّث المُعلميُّ اليَمانيُّ: "ليس نقدُ الرُّواة بالأمر الهيِّن؛ فإنَّ النَّاقدَ لا بدَّ أن يكون واسعَ الإطلاع على الأخبار المرويَّة، عارفًا بأحوال السَّابقين وطُرق الرِّواية، خبيرًا بعوائد الرُّواة ومقاصدِهم وأغراضهم، وبالأسباب الدَّاعية إلى التَّساهُل والكذب، والمُوقِعة في الخطأ، ثم يحتاج إلى أنْ يعرِفَ أحوال الرَّاوي: متى وُلد؟ وبأيِّ بلد؟ وكيف هو في الدِّين والأمانة والعَقل والمُروءة؟ ومع مَن سمع؟ وكيف كتابُه؟
ثم يعرِف أحوال الشُّيوخ الذين يُحدِّث عنهم، وبُلدانهم ووفياتهم، وأوقات تحديثهم، وعاداتهم في الحديث، ثم يعرف مَرويَّاتِ النَّاس عنهم، ويعرِض عليها مرويَّاتِ هذا الرَّاوي ويعتبر بها، إلى غير ذلك مما يطول شرحُه، ويكون مع ذلك متيقِّظًا مرهف الفَهْم، دقيقَ الفِطنة، مالكًا لنفسه، لا يَستميله الهوى، ولا يَستفزُّه الغضب، ولا يَستخفُّه بادرُ ظنٍّ، حتَّى يستوفيَ النَّظر، ويبلغ المقر، ثم يُحسن التَّطبيق في حُكمه، فلا يجاوز ولا يقصر.
وهذه مرتبةٌ بعيدةُ المَرام، عزيزة المَنال، لم يَبلغْها إلاَّ الأفذاذ" [6] ( http://www.alukah.net/articles/1/5582.aspx#______6).
وقال: "كان الرَّجلُ مِن أصحاب الحديث يُرشَّح لطلب الحديث وهو طفل، ثم يَنشأ دائبًا في الطَّلب والحفظِ والجَمع ليلاً ونَهارًا، ويرتحل في طلبه إلى أَقاصي البُلدان، ويقاسي المَشاقَّ الشَّديدةَ كما هو معروفٌ في أخبارهم، يَصرف في ذلك زَهرةَ عُمُرِه إلى نحو ثلاثين أو أربعين سَنةً، وتكون أُمنيتُه مِنَ الدُّنيا أن يقصدَه أصحابُ الحديث، يسمعوا منه ويَرووا عنه، فمَن تدبَّر أحوالَ القوم، بَانَ له أنَّه ليس العجبُ مِمَّن تحرَّز عن الكذب منهم طولَ عُمُرِه، وإنَّما العجب ممن اجترأ على الكذب! كما أنَّه مَن تدبَّر كثرةَ ما عندهم مِنَ الرِّواية، وكثرةَ ما يقع من الالْتباس والاشتباه، وتدبَّر تعنتَ أئمَّة الحديث - بَانَ له أنَّه ليس العجبُ مِمَّن جرحوه، بل العجب مِمَّن وثَّقوه" [7] ( http://www.alukah.net/articles/1/5582.aspx#______7).
فالذين يتكلَّمون اليومَ في الدُّعاة والعُلماء بالتَّجريح، هلْ توفَّرتْ فيهمُ الشُّروط التي ذكرها العُلماء؟! فغايةُ ما يَعلمونه هو أقوالٌُ مسموعةٌ من شبابٍ لا يُدرِك ما يقول، وفي أغلبها يغلب الحِقدُ والحَسدُ والكَذب، فهلْ رَحل هؤلاءِ وسمعوا مِمَّن تكلَّموا فيهم؟ وهل واجهوهم بأخطائهم؟ وهل ثَبَتَ أنَّهم أَصرُّوا عليها بعدَ البلاغ؟
كلُّ ذلك لم يحدُثْ قطُّ، فهلْ مثل هؤلاء يُحسبون على أهلِ هذا العِلم؟!
¥