وأما القسم الثاني، فإنه إذا ساق لأحدهم حديثاً أتبعه ما نقل فيه: من أنه مجهول أو غير مشهور، أو لم تثبت عدالته، وما أشبه ذلك من الألفاظ، وهو أيضاً قد يعتريه فيهم ما يعتريه في القسم الأول من وجود التوثيق في أحدهم أو التجريح لغير من جهله.
والقسم الثالث، وهم المُهمَلون، يعتبر من أحوالهم تعدد الرواة عن أحدهم، فمن كان قد روى عنه اثنان فأكثر، قَبِلَ حديثه، واحتج بروايته ...
وإن كان لم يرو عن أحدهم إلا واحد أو لم يعلم روى عنه إلا واحد، فهؤلاء لا يتجاسر أن يقول لأحدهم مجهول، بل تراه يقول: في إسناده فلان، ولم يرو عنه إلا فلان، أو لا يُعلَم روى عنه إلا فلان، فهو عنده لا يقول في أحد: مجهول، إلا بنقل عن أحد قاله، كأنه مذهب حتى إنه لما ذكر حديث: (المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار). أتبعه أن قال: حِبَّان بن زيد الشَرْعَبي، لا أعلم روى عنه إلا حَريز بن عثمان، وقد قيل: إنه مجهول.
والحقّ في هذا أن جميعهم مجهولون؛ لأنهم لما لم يثبت أن أحداً منهم روى عنه إلا واحد، فهو لم يثبت لنا منه بعد أنه مسلم، فضلاً عن كونه ثقة، ولو ثبت لدينا كونه عدلاً لم يضره أن يكون لا يروي عنه إلا واحد؛ لأن العدد ليس بشرط في الرواية، وكذلك لو ثبت لنا أنه مسلم لم يضره أن لا يروي عنه جماعة، والتحق بالمساتير الذين روى عن كلّ واحد منهم اثنان فأكثر، الذين حُكمُهم أنهم مختلف فيهم بحسب الاختلاف في ابتغاء مزيد على الإسلام، والسلامة من الفسق الظاهر.
والحقّ فيهم أنهم لا يُقبَلون ما لم تثبت عدالة أحدهم، وأنهم بمثابة المجاهيل الأحوال الذين لم يرو عن أحدهم إلا واحد، فإنا إذا لم نعرف حال الرجل، لم تلزمنا الحجة بنقله.
وما ذكرهم مصنفو الرجال مهملين عن الجرح والتعديل، إلا أنهم لم يَعرفوا أحوالهم وأكثرُهم إنما وُضعوا في التراجم الخاصة بهم في كتب الرجال، أخذاً من الأسانيد التي وقعوا فيها، فهم إذن مجاهيل حقاً".
8 - جهّل ابن القطان رواة كثيرين هم ثقات أو جهالة أعينهم مرتفعة، وقد عمل الدكتور الحسين آيت سعيد محقق كتاب ابن القطان ملحقاً ضم (61) راوياً جهل ابن القطان عينهم أو حالهم، فأثبت الدكتور أن كثيراً منهم ثقات والباقي جهالة العين أو الحال مرتفعة عنهم.
9 - ردّ مذهب ابن القطان في المجهول:
قال اللكنوي: "كثيراً ما تطالع في ميزان الاعتدال نقلاً عن ابن القطان في حقّ الرواة: لا يعرف له حال، أو لم تثبت عدالته ... فلعلك تظن منه أن ذلك الراوي مجهول أو غير ثقة، وليس كذلك؛ فإن لابن القطان في إطلاق هذه الألفاظ اصطلاحاً لم يوافقه عليه غيره".
قال ابن القطان في حديث رواه هلال بن يَساف عن أبي المثنى الحمصي عن أبي أُبيّ ابن امرأة عبادة عن عبادة مرفوعاً: (إن إدركتها أصلي معهم؟ قال: إن شئت).
قال: "فإن قيل: فابن عبدالبر قال إثر هذا الحديث: أبو المثنى: ثقة. قلنا: لم يأت في توثيقه بقول معاصر أو قول من أخذ عن معاصر، فلا يقبل توثيقه، إلا أن يكون في رجلٍ معروفٍ قد انتشر له من الحديث ما يُعْرَف به حاله، وهذا ليس كذلك".
فتعقبه الذهبي بقوله: "وثّقه ابن عبدالبر لكونه ما غُمِز أصلاً، ولا هو مجهول لرواية ثقتين عنه".
قلت: وهذا هو المستور الذي يقبله الذهبي، ولكنه مردود عند ابن القطان، لأن الراوي ولو روى عنه جماعة فلا تثبت عدالته بذلك.
وقال ابن القطان في (حَفصُ بن بُغَيل): "لا يُعرف له حال ولا يُعرف".
فتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: لم أذكر هذا النوع في كتابي هذا، فإن ابن القطان يتكلم في كلّ من لم يقل فيه إمام عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره ما يدل على عدالته، وهذا شيء كثير. ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستورون ما ضعفهم أحد ولا هم بمجاهيل".
وقال الذهبي: "حفص بن بغيل المرهبي عن سفيان وزائدة، وعنه أبو كريب وأحمد بن بديل: صدوق".
وقال ابن حجر: "حفص بن بغيل، بالموحدة والمعجمة مصغراً، الهمدانيّ المرهبيّ الكوفيّ، مستور، من التاسعة. د".
وقال الذهبي أيضاً في نقد طريقته: "وعَمد إلى رواةٍ لهم جلالة وجلادة في العلم، وحديثهم في معظم دواوين الإسلام فغمزهم بكون أنَّ أحداً من القدماء ما نصّ على توثيقهم بحسب ما اطّلع هو عليه".
10 - أسرفَ ابن القطان في تضعيف الأحاديث بالجهالة، وإن كانت الجهالة عنده كما يوحي بعض كلامه بأنها توقف، إلا أن النتيجة واحدة، وهي عدم الاحتجاج بحديث فيه راوٍ مجهول لا تُعرف عدالته. فالراوي إذا لم يوثقه أحد فإنه مجهول عند ابن القطان فيرد حديثه.
قال ابن القطان في (صالح بن أبي عَريب): "لا يُعرف حاله، ولا يُعرف روى عنه غير عبدالحميد بن جعفر".
فتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: بلى، روى عنه حيوة بن شُريح، والليث، وابن لهيعة، وغيرهم. له أحاديث. وثّقه ابن حبان".
د. خالد الحايك