فضل الله تعالى الرجال على النساء، وله في ذلك العلم الكامل والحكمة البالغة،:"ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" [الملك:14]، ومن جملة ما فضل الله به الرجال على النساء ما جاء في قوله تعالى:"الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم" [النساء:34]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيرها: "أي الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها، ومؤدبها إذا اعوجت"، فإذا كان الرجل من المرأة بهذه المنزلة والمكانة ناسب أن لا تستبد المرأة بالهبة والعطية من مالها إلا بإذنه، بل عليها مشاورته واستئذانه في ذلك قبل الإقدام، فإن أذن لها فذاك وإن أبى كان عليها أن ترجع إلى رأيه، ولا حرج عليها أن تراجعه في ذلك الأمر مرة بعد أخرى-من غير إلحاف- لعل صدره ينشرح لتصرفها فيأذن لها فيه.
ويشهد لما دل عليه الحديث من عدم تصرف المرأة في مالها بالهبة أو العطية، ما أخرجه النسائي والحاكم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:قيل لرسول الله ?: أي النساء خير؟ قال:التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا يخالفه في نفسها و مالها بما يكره"، وموضع الشاهد قوله:"ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره" (أخرجه النسائي كتاب النكاح رقم 3179 والحاكم في المستدرك 2/ 175، وقال الذهبي:على شرط مسلم، وأحمد رقم 7114 لكنه قال:وماله، بدلا من: ومالها، وقال الألباني (في صحيح الجامع 1/ 624):صحيح
أخرجه الترمذي كتاب النكاح رقم1031 وقال:حديث حسن صحيح، وأحمد رقم 15125 لكن الحديث ضعفه الألباني والأرنؤوط) ما يعني رجوعها إليه واستئذانه في هبتها وعطيتها، ويشهد له أيضا ما ورد عن عامر بن ربيعة:"أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله ?:أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت:نعم، قال:فأجازه" والشاهد فيه قوله:أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ ولفظ "من" هنا تعني بدلا، كما في قوله تعالى:"أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة" أي بدلا.
فحديث الباب فيه بيان حق من حقوق الزوج على زوجته وهو أنه إذا ملك عصمتها فليس لها أن تتصرف في مالها بهبة أو عطية إلا بإذنه، وهذا من كمال حقه عليها، وهذا أيضا ليس فيه غضاضة على المرأة أو انتقاص لحقها في التملك.
ومما تنبغي المبادرة بذكره هنا أن هذا الحديث ليس فيه أن الرجل يتملك مال امرأته، أو أنه يتصرف فيه برأيه، أو أنه يحجر على امرأته في تصرفاتها المالية في المعاوضات كالبيع أو الشراء ونحو ذلك، أو في أعمال القربات كالصدقة وصلة الأرحام و العتق ونحو ذلك، ليس في الحديث شيء من ذلك، وإنما دل الحديث على أن المرأة لا تتصرف في مالها بهبة أو عطية إلا بإذن زوجها، وقد اختلف أهل العلم في القول بما دل عليه الحديث على أقوال:
الأول:قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه:"باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج، فهو جائز إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجز، قال الله تعالى:ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" قال ابن حجر:"وبهذا الحكم قال الجمهور ... وأدلة الجمهور من الكتاب والسنة كثيرة".
فالجمهور على أن المرأة المزوجة لها أن تهب من مالها لغير زوجها من غير الرجوع إليه، إذا كانت رشيدة ولم تكن سفيهة، وقد استدل البخاري لذلك بما أخرجه في صحيحه عن أسماء رضي الله عنها قالت:قلت:يا رسول الله ما لي مال إلا ما أدخل عليَّ الزبير فأتصدق؟ قال:تصدقي، ولا توعي فيوعى عليك"، وبما رواه:"أن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها ... أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي ?، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت:أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال:أو فعلت؟ قالت:نعم، قال:أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك".
ووجه الدلالة في حديث أسماء رضي الله تعالى عنها أنه أمرها بالصدقة ونهاها عن البخل، ونهاها عن جمع المال وحبسه، ولم يقيد ذلك بطلب إذن الزوج بل أطلق.
ووجه الاستدلال من حديث ميمونة رضي الله تعالى عنها وأرضاها كما قال ابن حجر "أنها كانت رشيدة، وأنها أعتقت قبل أن تستأمر النبي ?، فلم يستدرك ذلك عليها بل أرشدها إلى ما هو الأولى، فلو كان لا ينفذ لها تصرف في مالها لأبطله والله أعلم".
وقال النووي:"وفيه جواز تبرع المرأة بمالها بغير إذن زوجها".
¥