[سؤال حول الاختلاف على الراوي في الوقف و الرفع]
ـ[عبدالرحيم الجزائري]ــــــــ[04 - 01 - 07, 02:36 م]ـ
إذا اختلف في وقف الحديث و رفعه، واتحد المخرج، فهل التجويز - " يعني قولنا:يحتمل أن يكون الراوي رواه تارة موقوفا و تارة مرفوعا"- من منهج المحدثين أم من منهج الأصوليين؟
ألا يعتبر الترجيح ابتداء تخطئة للثقة بلا دليل؟
ما مذهب العلامة الألباني رحمه الله في هذه المسألة؟
ـ[محمد بن عبدالله]ــــــــ[04 - 01 - 07, 06:39 م]ـ
لما ذكر ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإيهام (5/ 219) حديث أنس - رضي الله عنه - في تخليل اللحية قال: "ذكر محمد بن يحيى الذهلي في كتابه في علل حديث الزهري، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن خالد الصفار من أصله وكان صدوقًا، قال: حدثنا محمد بن حرب قال: حدثنا الزبيدي عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فأدخل أصابعه تحت لحيته فخللها بأصابعه، ثم قال: "هكذا أمرني ربي جل وعز". هذا الإسناد صحيح، ولا يضره رواية من رواه عن محمد بن حرب عن الزبيدي أنه بلغه عن أنس، فقد يراجع كتابه، فيعرف منه أن الذي حدثه به هو الزهري، فيحدث به، فيأخذه عنه الصفار وغيره، وهذا الذي أشرت إليه هو الذي اعتل به عليه محمد بن يحيى الذهلي حين ذكره" ا. هـ.
قال الإمام الحافظ ابن القيِّم - رحمه الله - في حاشيته على سنن أبي داود (1/ 169 - عون): "قلت: وتصحيح ابن القطان لحديث أنس من طريق الذهلي فيه نظر، فإن الذهلي أعله فقال في الزهريات: وحدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، أنه بلغه عن أنس بن مالك، فذكره. قال الذهلي: هذا هو المحفوظ.
قال ابن القطان: وهذا لا يضره فإنه ليس من لم يحفظ حجة على من حفظ، والصفار قد عين شيخ الزبيدي فيه وبين أنه الزهري، حتى لو قلنا إن محمد بن حرب حدث به تارة فقال فيه عن الزبيدي بلغني عن أنس لم يضره ذلك، فقد يراجع كتابه فيعرف منه أن الذي حدث به الزهري فيحدث به عنه فأخذه عن الصفار هكذا.
وهذه التجويزات لا يلتفت إليها أئمة الحديث وأطباء علله، ويعلمون أن الحديث معلول بإرسال الزبيدي له، ولهم ذوق لا يحول بينه وبينهم فيه التجويزات والاحتمالات" ا. هـ كلام ابن القيِّم.
فهذا حديثٌ اختُلف فيه بين الوصل والإرسال - وهو أشبه ما يكون بالاختلاف في الوقف والرفع -، فصححه ابن القطان بالتجويز العقلي، فذكر أنه يجوز أن يكون رواهُ مرةً بالواسطة المجهولة، ومرةً بواسطة الزهري، ومن ثم؛ فيجوز أن يكون الراوي الأول أخذه عن الشيخ بروايته الأولى، والراوي الثاني أخذه عن الشيخ بروايته الثانية.
إلا أن ابن القيِّم - رحمه الله - بيَّن أن هذا لا يلتفت إليه أئمة الحديث وعلله، ولهم في ذلك ذوق خاص.
وعلماء الحديث وعلله في هذه المسألة هم من ضعَّف هذا الحديث، كأحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي (ضعَّفا كل ما ورد في تخليل اللحية)، ومحمد بن يحيى الذهلي، فهؤلاء الأئمة الحفاظ لم يلتفتوا إلى ذلك التجويز الذي ذكره ابن القطان، ولو كان من منهج المحدثين اعتبار تلك التجويزات وأمثالها لما فات على هؤلاء الأئمة الثلاثة، وهم من كبارِ كبارِ المحدثين.
وانظر إلى كلمة ابن القيِّم - رحمه الله -: (لا يلتفت)؛ وهي موحيةٌ بالاطِّراح الشديد لتلك التجويزات، وعدم إلقاء البال لها. وما بَعُدَ كلَّ هذا البُعْدِ عن منهج (أئمة الحديث وأطباء علله) = فكيف سيكون من منهج المحدثين؟!
وفي هذا دليلٌ أكيدٌ على اختلاف منهج المتقدمين والمتأخرين، فبينما أعمل المتأخر (ابن القطان هنا، وكثير من المتأخرين) التجويز العقلي والاحتمال، لم يكن المتقدمون يلتفتون إلى ذلك، وهذا اختلاف في جذور المنهج.
ونقل السيوطي في تدريب الراوي قال: (قال البلقيني: قد يقع القلب في المتن. قال: ويمكن تمثيله بما رواه حبيب بن عبد الرحمن عن عمته أنيسة مرفوعًا: "إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا، وإذا اذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا ... " الحديث، رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما. والمشهور من حديث ابن عمر وعائشة: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، قال: فالرواية بخلاف ذلك مقلوبة. قال: إلا أن ابن حبان وابن خزيمة لم يجعلا ذلك من المقلوب، وجمعا باحتمال أن يكون بين بلال وبين أم مكتوم تناوب. قال: ومع ذلك فدعوى القلب لا تبعد، ولو فتحنا باب التأويلات لاندفع كثير من علل الحديث).
ففتح باب التأويلات والتجويزات والاحتمالات يدفع ويناقض كثيرًا من علل الحديث، وعلل الحديث أساسٌ في هذا العلم، فكيف يكون دفعُ أساسٍ من أساساتِ علمِ الحديث= منهجًا للمحدثين؟!!
وقد قلتَ أخي الكريم:
ألا يعتبر الترجيح ابتداء تخطئة للثقة بلا دليل؟ فهل يمكن وقوع (ترجيح) بلا دليل؟ وهل الترجيح إلا اختيار أحد الأمرين لمعنىً أيَّده، وذلك المعنى المؤيِّد هو دليل الترجيح.
وما جاءت تخطئة الثقة هنا إلا بدليل ظاهرٍ واضح، هو أن قرينةً ما أرشدتنا إلى أن هذا الثقة أخطأ، فربما كان مخالفُهُ أوثق منه، أو كان مخالفُهُ جماعة، أو كانت رواية سلوكًا للجادة ... إلخ من قرائن الترجيح المختلفة.
وهذه القرائن هي الدليل الثابت الذي اعتمده أئمة الحديث الذين من أقوالهم وتصرفاتهم يُستقى هذا العلم، فهم واضعو مبادئه ومؤسسوه، وتصرُّفاتهم في اختصاصهم هذا يُحتجُّ بها، ويُقتدى ويمتثل ما جاء فيها، وهي القواعد التي بُني عليها هذا العلم.
وما دامت تصرفاتهم فائضةً بتخطئة الثقة بقرائن معروفة؛ فهذا يعني أن ذلك هو الصواب في منهج المحدثين، وأنهم مستندون في ذلك إلى مستند قوي، ولا يخطِّئون ويصوِّبون إلا بدليل. والله أعلم.
¥