وأقلُّ من هؤلاء بكثيرٍ مَنْ له عناية تامَّة بتمييز الأحاديثِ الضعيفةِ جدًّا من غيرِها، بل إني لا أعلمُ من له تخصص في هذا المجال، مع كونه من الأمور الهامَّة كما بينتُه آنفاً، وهو عندي أهمُّ من عنايتِهم بتمييزِ الحديثِ الحسنِ من الصَّحيحِ، مع أنه ليس تحته كبير فائدة؛ لأنَّ كلاًّ منهما يُحتجُّ به في الأحكامِ كما سبق، اللهمَّ إلا عند التعارضِ والترجيحِ، بخلافِ ما نحن فيه، فإنه يُعمل بالحديثِ الضعيفِ في الفضائلِ دون الضعيفِ جدًّا، فبيانه واجبٌ من بابٍ أولى.
فإن قيل: لِمَا هذا التفصيلُ والتشديدُ في روايةِ الحديثِ الضعيفِ، والمنذريُّ ـ رحمه اللَّه ـ قد ذكر في مقدمة كتابه: ((أنَّ العلماءَ أساغوا في أنواع الترغيب والترهيب، حتى إن الكثيرَ منهم ذكروا الموضوعَ، ولم يُبيِّنوا حالَه)).
وجواباً عليه أقول:
إنَّ التساهل الذي أساغوه يحتمل وجهين:
الأول: ذِكْرُ الأحاديث بأسانيدِها؛ فهذا لا بأس به، كيف لا وهو صنيع جميع المحدثين من الحفاظ السابقين الذي كان أول أعمالهم في سبيل حفظ السنة وأحاديثها .... وعلى هذا الوجه ينبغي حملُ قول المنذريِّ المذكور عن العلماء؛ إحساناً للظنِّ بهم أولاً، ولأنه هو الذي يدلُّ عليه كلامُ الحفاظِ ثانياً، بالإضافة لإلى ما ذكرناه مما جرى عليه عملهم. فهذا هو الإمام أحمد يقول:
((إذا جاء الحلال والحرام شدَّدنا في الأسانيد، وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد)).
فهذا نصٌّ فيما قلناه، ومثله قولُ ابنِ الصَّلاح في ((علوم الحديث)) (ص/113): ـ ((ويجوزُ عند أهلِ الحديثِ وغيرِهم التساهلُ في الأسانيدِ، وروايةِ ما سوى الموضوع من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات اللَّه وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما، وذلك كالمواعظِ والقصص وفضائل الأعمال، وسائر فنون الترغيب والترهيب، وسائر مالا تعلُّقَ له بالأحكام والعقائد)).
فتأمل في قوله: ((التساهل في الأسانيد)) يتجلَّى لك صحةُ ما ذكرنا.
السبب في ذلك أنَّ من ذكر إسناد الحديث فقد أعذر وبرئت ذمته؛ لأنه قدَّم لك الوسيلة التي تمكِّن من كان عنده علم بهذا الفنِّ من معرفةِ حال الحديث صحةً أو ضعفاً، بخلاف من حذف إسناده، ولم يذكر شيئاً عن حاله، فقد كتم العلم الذي عليه أن يبلِّغَه.
من أجل ذلك عقَّب ابنُ الصَّلاحِ على ما تقدَّم بقوله:
((إذا أردت روايةَ الحديثِ الضعيفِ بغيرِ إسنادٍ فلا تقل فيه: قال رسولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ... )).
- ولنعم ما قال الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه اللَّه ـ في ((الباعث الحثيث)) (ص/101): ((والذي أُراه أنَّ بيان الضعفِ في الحديث واجبٌ على كلِّ حالٍ؛ لأن ترك البيان يوهم المُطَّلعَ عليه أنه حديثٌ صحيحٌ، خصوصاً إذا كان الناقلُ من علماءِ الحديثِ الذين يُرجعُ إلى قولهم في ذلك، وأنَّه لا فرق بين الأحكامِ وبين فضائلِ الأعمالِ ونحوِها في عدمِ الأخذِ بالروايةِ الضعيفةِ؛ بل لا حجة لأحدٍ إلا بما صحَّ عن رسولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من حديث صحيحٍ أو حسنٍ)).
- قلت (الشيخ الألبانيُّّ): والوجه الآخر الذي يحتمله كلامُ المنذريِّ المتقدم إنما هو ذِكْرُ الأحاديثِ الضعيفةِ بدون أسانيدها ودون بيان حالها حتى الموضوع منها، فهذا في اعتقادي مما لا أتصوَّر أن يقوله أحدٌ من العلماء الأتقياء، لما فيه من المخالفة لما تقدَّم في كلام الإمام مسلم (وكان قد نقلَه) من نصوصِِ الكتابِ والسنةِ في التحذيرِ من الروايةِ عن غير العدول، لا فرق في ذلك بين أحاديثِ الأحكامِ والترغيبِ والترهيبِ وغيرِها.
وأصرح منه قوله ـ يعني الأمامَ ملسماً بنَ الحجَّاجِ في تقدمته لصحيحه ـ بعد بحثٍ هامٍّ في وجوب الكشف عن معايبَ رواةِ الحديث وذكر أقوال الأئمة في ذلك، قال (1/ 29):
¥