مثال ذلك: لو وقع زلزال مدمر، وأراد الخطيب أن يعرض لموضوع الزلازل فسيجد أن الزلازل لم يأت ذكرها في القرآن إلا في موضعين: أول سورة الحج [إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ] {الحج:1} وفي سورة الزلزلة، وهما في زلزلة يوم القيامة، لا في زلازل الدنيا، وجاء ذكر الزلزلة في موضعين آخرين على الاستعمال المعنوي لا الحسي، في البقرة [وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله] {البقرة:214}، وفي الأحزاب [هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا] {الأحزاب:11}.
ففي هذا المثال يستطيع الخطيب الحديث عن موضوعات عدة لها صلة بالزلازل، منها:
1 - زلزلة القيامة، والآثار الناجمة عنها مستدلا بهذين الموضعين، ومستحضرا لآثار تلك الزلزلة العظيمة بأوصافها المذكورة في سور الواقعة [إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا] {الواقعة:4} والتكوير والانفطار والانشقاق والقارعة، ثم يقارن بين ما خلفته الزلزلة التي شاهدها الناس من دمار جزئي في الأرض، وما ستخلفه زلزلة القيامة من دمار عام في الكون.
2 - الجبال وفائدتها، وكونها أوتادا تثبت الأرض، ويجمع الآيات في ذلك، وهي كثيرة.
3 - قدرة الله تعالى على الخلق، وأنهم مهما بلغوا من القوة لا يستطيعون أن يردوا عذاب الله عز وجل، مستحضرا ما وقع من هلاك المكذبين السابقين بأنواع العقوبات، مما حكاه القرآن من قصصهم.
4 - آثار الذنوب والمعاصي، وأنها سبب للعذاب والدمار في الأرض، والآيات فيها كثيرة.
الخيار الثاني: أن يقتصر على ما في موضوعه من آيات ولو كانت قليلة، ويدعم خطبته بالأحاديث والآثار، وهذا حسن إن وجد في موضوعه نصوصا في ذلك.
الخيار الثالث: أن يعوض النقص في ذلك بكلامه هو، ويطيل في الوصف والعرض بكلام إنشائي خال من النصوص، ولست أحبذ هذه الطريقة وإن سلكها كثير من الخطباء لما يلي:
1 - أنها تحول الخطبة إلى ما يشبه كلام الإعلاميين والأخباريين.
2 - أن على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية نورا إذا كسا به الخطيب خطبته كانت مباركة، وإذا خلت الخطبة من نصوصهما نزعت البركة منها.
3 - أن هذا يجعل خطبته مفيدة في كل زمان ومكان، ولو من النصوص التي جمعها، وإن تغيرت الصياغة والأفكار في ذلك.
وقد ينازع بعض المتخصصين في الخطابة وأساليبها وأبوابها محتجين بأن شخصية الخطيب تذوب في النصوص.
وهذا غير صحيح؛ لأن قدرة الخطيب على جمع النصوص، وحسن عرضها في خطبته، وقوته في الاستدلال بها، وانتزاع ما يفيده منها، إن لم يكن أعلى من جودة الأسلوب في الدلالة على براعة الخطيب فليس بأقل منها.
وتصح المنازعة في ذلك لو كان الخطيب ضعيفا في الاستنباط والاستدلال بحيث يضع النصوص في غير مواضعها، أو يتعسف في الاستنباط منها، ولا يحسن التعامل معها، أو يهمل قريب الدلالة ويورد بعيدها، ومن كان هذا حاله فالعلة فيه لا في نصوص الوحيين.
هذا وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام خطب بسورة (ق) كما في حديث أم هشام بِنْتٍ حَارِثَةَ بن النُّعْمَانِ رضي الله عنها قالت: (ما حَفِظْتُ ق إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ بها كُلَّ جُمُعَةٍ) (1)، وكفى بها موعظة بليغة لمن ألقى السمع وهو شهيد، وسأفرد مقالة خاصة في الخطبة بآية أو آيات أو سورة إن شاء الله تعالى.
وجاء في حديث جَابِرِ بن سَمُرَةَ رضي الله عنه قال: (كانت لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خُطْبَتَانِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُذَكِّرُ الناس) (2) واستنادا إلى ذلك فإن من الأئمة من يشترطون لصحة الخطبة قراءة ولو آية فيها.
والخطبة خطاب شرعي محض، له أحكامه التوقيفية، فلا يقاس بالأعمال الأدبية التي يتوسع فيها، ويظهر الكاتب شيئا من بلاغته وفنه.
موضوعات لا نصوص فيها أو هي قليلة:
قد تكون بعض الموضوعات ملجئة للخطيب إلى عدم الإكثار من النصوص كحديثه عن سير الأعلام وقصص التاريخ والمغازي ونحوها، وهذه الموضوعات ونحوها بإمكان الخطيب أن يجد لها من النصوص ما يناسبها سواء في ثنايا القصة أو الغزوة أو في الدروس المستفادة منه.
¥