كذلك بعض القضايا المعاصرة قد تلجئ الخطيب إلى التقليل من النصوص بسبب تناول الخطيب للموضوع من جانب تاريخي أو عقلي يرى أنه مهم كالحديث عن تاريخ بيت المقدس أو تاريخ بعض الفرق، أو بعض المصطلحات الحادثة ونحو ذلك، ومثل هذه الموضوعات يعذر فيها الخطيب، ولا سيما إذا دعت الحاجة إليها لنازلة فرضتها واقعا، والناس يتحدثون فيها، وينتظرون تحريرا شرعيا لها من الخطباء.
ولكن الخطيب يعاتب ويؤاخذ إذا كانت السمة الغالبة لخطبه فيها إعراضٌ عن النصوص، أو يقلل منها لحساب إنشائه وبيانه وبلاغته، أو لحساب ما يعرضه من قصص أو أقوال أو حجج عقلية أو غير ذلك. ويشتد العتاب عليه إذا كان الموضوع الذي يختاره مملوءا بالنصوص القرآنية والنبوية فيعرض عنها إلى ما هو أدنى منها من حجج وقصص وأقوال ونقول.
وليعلم الخطيب أن من أهم مهماته التي يرتقي درجات المنبر لأجلها: تربية الناس على تعظيم نصوص الوحيين، وتقديمها في الاستدلال على غيرها، والإذعان لها، والتسليم بها، وعدم منازعتها بما هو دونها من حجج أو قصص أو أقاويل أو نقول ونحوها.
فإذا كان الأمر كذلك فكيف يقبل الناس دعوة خطيب إلى تعظيم الكتاب والسنة، والتسليم بهما، وهم يرونه قليل الاستدلال بهما، مستبدلا بهما غيرهما؟!
وأحسب أن هذه اللوثة المستهينة بنصوص الكتاب والسنة تسربت إلى الخطباء من المناهج العقلانية التي تعنى بحجج العقل على حساب النص، أو من الاتجاهات الأدبية التي تعلي من شأن الإنشاء والأساليب البلاغية واللغوية وتقدمها على النصوص. كما أن انتشار لغة الصحفيين والإعلاميين في الآفاق أثَّر سلبا على بعض الخطباء فصاروا يحاكونهم في أساليبهم ويستخدمون ما أحدثوه من مصطلحات ومفردات وعبارات بلا نظر في صحتها اللغوية، أو عدم مخالفتها الشرعية.
ولا ينبغي أن يفهم من تقرير ذلك أن نصوص الكتاب والسنة تعارض الحجج العقلية أو الأساليب البلاغية؛ فالقرآن مملوء بتقرير ما يوافق العقول الصريحة، ويحوي كثيرا من الآيات التي تعنى بمفردات العقل والبرهان والآية والدليل ونحوها، وهكذا السنة.
وكلام الله تعالى هو أبلغ الكلام، وكثير من قوانين اللغة، وقواعد البلاغة إنما أخذت منه، ويستدل به لها أو عليها، وما عارضه من قواعد اللغة والبلاغة والبيان فليس بشيء، ولا يحتج به.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، وهو أفصح البشر وأبلغهم، وأحاديثه الجامعة للمعاني الكبيرة الغزيرة في كلمات قليلة تدل على ذلك.
بيد أن بعض الخطباء يتأثر بالمناهج الفلسفية الكلامية في الاستدلال، أو يجنح إلى أساليب أهل البلاغة والبيان على حساب نصوص الكتاب والسنة.
وأما الحال الثالثة وهي: أن تكون الآيات كثيرة جدا لا يمكنه حشدها كلها، كالخطبة عن التقوى فإنها جاءت ومشتقاتها في أكثر من أربعين ومئتي موضع من القرآن، والصبر جاء ذكره فيما يزيد على مئة آية، هذا عدا موضوعات التوحيد والترغيب والترهيب، وذكر الجنة والنار وغيرها.
وفي هذه الحالة للخطيب خياران:
الخيار الأول: أن يرتب ما يناسب للاستدلال من هذه الآيات على وحدات موضوعية، يضم الآية فيها مع نظيرتها، مثل: جمعه للآيات الآمرة بالتقوى، ويجمع آيات ثمرات التقوى، وآيات صفات المتقين ... ، وهذه الطريقة وإن كان فيها مشقة فإنها تمكن الخطيب من صنع خطب عدة في الموضوع الواحد ليس فيها تكرار، وتزيد من قوته العلمية واستحضاره للآيات، ومعرفته لطريقة القرآن في عرض الموضوعات.
الخيار الثاني: أن يختار من هذا الكم الكبير من الآيات ما يراه مناسبا لخطبته.
وثمة أمر مهم وهو أن كثيرا من الخطباء لا يطلعون على كل الآيات في الموضوع الذي سيخطبون به، وفي هذا شيء من القصور، وقد يؤدي إلى ترك الاستدلال بآيات هي أقوى في الدلالة على موضوعاتهم من الآيات التي اختاروها.
ما يراعى في الاستدلال بالآيات:
في الاستدلال بالآيات القرآنية أرى أنه ينبغي للخطيب مراعاة أمور:
¥