تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

3 - مقصدية التحذير وتذكيرالأذهان:" وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"

ومن عجيبها مجاورة الطرفين: الدنيا و الدين،الأكل والفكرة .. ورد كل شيء إلى الله:

فالأرض من جعله، والمأكل من رزقه، وليس النشور إلا إليه!!!

ومن عجيبها اختزال الحالات الثلاث للإنسان مع الأرض:سير وحصر ونشر،

سير عليها، وحصر فيها، ثم نشر منها!!!

ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[28 - 10 - 08, 08:13 ص]ـ

-10 -

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ {1} فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ {2} وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ {3}

لو طلب من صاحب فلسفة أن يقول بلغته بعض ما جاء في هذه الآيات لقال شيئا قريبا من هذا:

"إن الخلل العقدي يترتب عنه حتما فساد في القيم الخلقية للأفراد وتخلخل في أواصر العلاقات الاجتماعية ..... "

أو قريبا من هذا:

"إن المنظومة الفكرية والقيم الأخلاقية والبنيات الاجتماعية تشكل كلا عضويا بحيث أن الخلل الفكري له انعكاس مباشر على القيم والبنيات .. "

إن المقارنة بين الآيات وهذا "النص المصنوع" سيساعدنا في الكشف عن بعض خصائص اللغة القرآنية:

نعترف- أولا- أن النص المصنوع لم يبتعد كثيرا عن تقرير مقصد الآيات ... ولكن شتان بين الأسلوبين!

إن الفيلسوف يعمد إلى نحت لغة تجريدية خالصة على نحو "تقشير البصلة":فالكلمة في التداول الإنساني مركبة من طبقات دلالية يمتزج فيها الحس (التخيل) والفكر والوجدان .. لكن الفيلسوف زاهد في غير الفكر .. ويرى أن إيحاءات الكلمة مشوشة فيضطر إلى صنع لغة تحتفظ فقط باللوغوس أو صوت العقل .. إن الأمر هنا شبيه باللغة الرمزية التي ابتدعها المناطقة والرياضيون مع فارق هو أن المنطقي يسعى إلى إقصاء كل الدلالات الطبيعية والاحتفاظ بالدلالة الصورية فقط أما الفيلسوف فيسعى إلى المسك بدلالة طبيعية واحدة ونبذ ما عداها ..

إن الفيلسوف لا يقول أبدا:

"زيد يشتهي تفاحة"

فهذه عبارة غير فلسفية، ومرد ذلك إلى أنها تصف حدثا جزئيا مشخصا ومن ثم فهي أقرب إلى الشعر والفن بصفة عامة .. والفيلسوف يرمي إلى ما هو عام ولا ينال العموم إلا بالتجريد ... فلا بد من تحوير العبارة السابقة إلى عبارة من جنس:

"نزوع الذات إلى موضوعها"

(هذه العبارة الموغلة في التجريد نفسها لن يرضى عنها المنطقي الرمزي إذ سيقدر أن زميله الفيلسوف ما زالت في عبارته بقية من "الروح" ومن ثم سيقترح الإجهاز الكلي على الطبيعة فتكون العبارة عنده:

"أ" و "ب" و "سهم" متجه من الأول إلى الثاني.)

نعود بعد هذه التوطئة إلى الآيات لنلحظ أن أسلوب القرآن مخالف تماما لأسلوب المنطق والفلسفة:

القرآن لا يذكر "الخلل العقدي" مفهوما عقليا مجردا ولكن يجسده في سلوك ...

وهذا السلوك نفسه ليس معنى مجردا بل شيء قائم في شخص ..

والشخص نفسه حاضر في الخطاب مشار إليه ومنبه عليه ...

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ..

الآية لا تقول:

أرأيت الذي "فسد معتقده" ..

ففساد المعتقد أمر تجريدي ولبيانه أكثر لا بد من "تحسيسه" ومن ثم شخّص هذا الفساد في شيء هو" يكذب بالدين" ..

المكذب بالدين شخصٌ جعل نفسه في مأمن من المتابعة والحساب .. وما دام الأمر كذلك فلم يقيد نفسه بمباديء من أي نوع كانت! ولم يلتزم ما لا يلزم!

فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ...

مرة أخرى تجسيد الفكرة في موقف وليس تجريد الموقف إلى فكرة كما يفعل الفيلسوف ..

الانفلات الخلقي موضوع هنا أمام السمع والبصر في مشهد معروض متحرك يجلي قسوة ما بعدها قسوة:

كبير في مواجهة صغير

قوي في مواجهة ضعيف ..

ثم نلحظ فعل" يَدُعُّ"كم هو دال على الخسة واللؤم .. فالدع دفع من خلف ... أي على حين غفلة من الضحية ... !! فلا هي قادرة على الدفاع عن نفسها ولا الوحش ترك لها فرصة تفادي الضربة .. فلم يأتها إلا من خلف!

وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين ..

هذا موقف آخر ... نشهد فيه انعكاس الخلل العقدي ... وامتداد شره إلى المجتمع وثقافته ..

والآية إذ تنفي الحض على الطعام تكون أبلغ مما لو نفت الإطعام نفسه .. عكس ما يظهر لبادي الرأي ..

فهذا المختل لو منع طعام مسكين لكان السوء أصاب فردا فقط ولكنه بعدم الحض يمنع إشاعة ثقافة الكرم والتكافل في المجتمع ويكرس ثقافة الاستئثار والأنانية .. فيصيب السوء المجتمع كله ..

اللغة المقشرة عند الفيلسوف تكون في القرآن ممتلئة:

فما قاله الفيلسوف عن مضاعفات الخلل العقدي فهمناه من الآيات .. ولكن الآيات قدمت لنا أمورا أخرى لا قبل للفيلسوف بها:

فقد أثارت الآيات في أذهاننا صورا حية .. وقدمت لنا أشخاصا .. وبعثت فينا أحاسيس ..

فقد ازداد بغضنا للمكذب بالدين .. عدو الناس والمجتمع ..

واقتربنا من المستضعفين ومعاناتهم .. واستنكرنا الدفع الوحشي لليتيم من خلف ظهره ... ومحاصرة المساكين .. لا يطعمون ولا يترك من يطعمهم ..

استبشعنا هذا النموذج القبيح .. وعاهدنا أنفسنا ألا نكون كذلك ..

وهكذا شعت الكلمة القرآنية على العقل والحس والوجدان والسلوك!!!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير