تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ـ[أبو عبد المعز]ــــــــ[02 - 11 - 08, 06:47 م]ـ

-11 -

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

للمفسرين في تقديم العبادة على الاستعانة مذاهب، فقد زعموا إجمالا أن العبادة غاية والاستعانة وسيلة، فكان من حق الوسيلة التقديم، ومن ثم بحثوا عن الحكمة في هذا العدول:

-قال البغوي-رحمه الله تعالى-:فإن قيل: لم قدم ذِكْرُ العِبَادَةِ على الاستعانَةِ، والاستعانةُ لا تكون إلاَّ قبل العبادة؟

قلنا: هذا يلزمُ من جَعَلَ الاستعانةَ قبلَ الفعل، ونحن نَجْعلُ التوفيقَ،والاستعانةَ مع الفعل، فلا فرق بين التقديم والتأخير.

- قال ابن عادل-رحمه الله تعالى-:

"وقدم العِبَادَةَ على الاسْتِعَانَةِ؛ لأنها وصلةٌ لطلب الحاجة."

-وقال ابن عاشور-رحمه الله تعالى-:

"ووجهه تقديم قوله {إياك نعبد} على قوله: {وإياك نستعين} أن العبادة تقرُّب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدِّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك، ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبوداً للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل. وقد حصل من ذلك التقديم أيضاً إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان."

مناقشة قول البغوي:

أدخل المفسر-رحمه الله- مسألة كلامية مختلف فيها هي مسألة مقارنة الاستطاعة للفعل أو تقدمها عليه .. والمحققون من أهل السنة يرون الاستطاعة نوعين:

نوعا متقدما على الفعل وهو ما يتعلق بسلامة الأدوات والأعضاء وغيرها .. ونوعا مقارنا لإنجاز الفعل ...

وعلى كل حال إذا سلمنا- جدلا -تزامن الاستطاعة والفعل من جهة الوجود، فهي متقدمة- منطقيا- تقدم الشرط على المشروط ... فيكون في قول المفسر: "فلا فرق بين التقديم والتأخير"نظر.

مناقشة ابن عاشور:

يستفاد من كلام المفسر ثلاث توجيهات أساسية:

-تقديم العبادة على الاستعانة من باب تقديم الأشرف، على اعتبارأن التقرب إلى الخالق أشرف من انتفاع المخلوق ..

-تقديم العبادة من باب تقدم العلة الغائية على اعتبار أن العلة الغائية وإن كانت تالية في التحقق فهي سابقة في التعقل .. فالعقل يتصور العبادة أولا ثم يخطط لتحقيقها فيكون تصور الوسائل بعدئذ.

-تقديم العبادة على الاستعانة لاعتبارات جمالية مثل تقديم الألفاظ بعضها على بعض،مراعاة للفواصل وتيسيرا على اللسان ..

لنا على كلام المفسر ملاحظتان:

أن الشيخ إذ تكلم عن" .. نفع المخلوق للتيسير عليه"فهو متكلم عن المعونة أو الإعانة أما الاستعانة فشيء آخر .. كما سيأتي بيانه.

في قول الشيخ: "فناسب أن يقدِّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك،"رائحة اعتزال فهو يرى العبادة "من صنعه" مخالفا لمذهب أهل السنة ومذهب الأشاعرة نفسه ..

مناقشة قول ابن عادل:

"وقدم العِبَادَةَ على الاسْتِعَانَةِ؛ لأنها وصلةٌ لطلب الحاجة."

فلعله يقصد أن العبادة تمهيد للطلب كما يقدم الثناء بين يدي طلب الحاجة ..

أو ذريعة للطلب، فكأن لسان حال العابد يقول" لأنني أعبدك فاعطني" فهو من باب ابتغاء الوسيلة كما في قوله تعالى:

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ "

وكل هذه التوجيهات لا تخلو من ضعف عند التحقيق، وسندنا في التضعيف فكرة أولية لم يلتفت إليها كثير من أهل التفسير:

أليست "الاستعانة من العبادة "!!

بلى!!!

"السين"للطلب،فالاستعانة طلب للعون، والطلب دعاء،والدعاء هو العبادة ..

وجعل الاستعانة لتحصيل العبادة أو العكس غلط عقلا ونقلا:

فهذا يفترض أن الاستعانة ليست عبادة وهذا غير مقبول شرعا فالمستعين بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك ... والآية نفسها عندما قدمت المفعول به "إياك"فقد دلت على معنى الحصر فالاستعانة لا تكون إلا بالله وإلا فهي شرك .. فإذا كانت الاستعانة من جنس العبادة فإنه محال عقلا أن تكون وسيلة لنفسها لأنها ستكون متقدمة ومتأخرة في وقت واحد!!

- وقد يقال لا محال في أن يتخذ نوع عبادة لاستجلاب أخرى .. لكن عبارات المفسرين لا يفهم منها ذلك-

ولذا لاحظنا أن قول ابن عاشور "وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق .. "قول غير دقيق لأنه يخلط بين الطلب والمطلوب .. فالمطلوب هو المنتفع به وقد يكون ماديا دنيويا أو روحيا أخرويا .. أما الطلب نفسه فهو قيام بالعبادة بل هي العبادة كما في حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ-الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما-عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}

قَالَ الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ وَقَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ دَاخِرِينَ}

قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ

فإذا تقرر هذا ظهر أن قول المفسر: أن العبادة تقرُّب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة،ليس صحيحا لأن تلك المناجاة نفسها من العبادة وطلب المعونة من العبادة ... ومن ثم فالكلام عن التقديم والتأخير من هذا الاعتبار غير معقول ..

التحقيق:

أن تقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة ليس من باب تقديم الأشرف، ولا من باب تقديم الوسيلة أو السبب،ولا من باب تقديم المقصد على الذريعة، بل هو من باب عطف الخاص على العام:

فعطف على جنس العبادة عبادة خاصة هي الاستعانة تنويها بها وتذكيرا بشأنها لأن العباد كثيرا ما يغفلون عن أمرها فتراهم يدعون غير الله ولا يشعرون بعظم جرمهم ... فكان أن نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله" الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ"

والله أعلم ..

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير