تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وإذا كانت الألسنة متباينة – وتلك سنة من سنن الله وآية من آياته – فلا بد أن يكون بعضها تبعاً لبعض وأن يكون الفضل في اللسان المتَّبع على التابع، وأولى الناس بالفضل في اللسان لسان النبي r، ولا يجوز – والله أعلم – أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسان يجب أن يكون تبعاً للسانه، وكل أهل دين قبله، عليهم اتباع دينه، وبذا يظهر دين الحق على الدين كله ولو كره المشركون .. يقول الشيخ أحمد شاكر في تحقيق الرسالة للشافعي: "إن الأمة التي نزل بلسانها الكتاب الكريم يجب عليها أن تعمل على نشر دينها ونشر لسانها ونشر عاداتها بين الأمم الأخري .. وأن تكون في ذلك كله كما قال الشافعي رحمه الله تبعاً لا متبوعاً" [الرسالة بتحقيق أحمد شاكر ص49].

وإذا كان الإسلام يسعى – جاهداً – لتوحيد المسلمين، ويعمل – دائماً وأبداً – على أن يجعلهم أمة متآخية متآلفة، فإن اللغة العربية هي أنجع الوسائل الموحدة لألسنتهم وبالتالي بين عقولهم وأفكارهم وتوجهاتهم، وهى التي تمحي ما بينهم من فروق، وتُزيل ما بينهم من غربة، وهي في النهاية التي تصهرهم في عقيدة واحدة شعارها: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).

ولقد أدرك الاستعمار كل هذا وحاول أن يعمل على طمس معالم هذه الأمة الواحدة، بتغيير لغتها أولاً، فراح يشوهها ويشوه صورة المتكلمين بها تارة، ويصفها بالتخلف والرجعية والجمود تارة، ويشيع اللهجات العامية في بلاد المسلمين تارة، وينادي بضرورة تعلم اللغات الأجنبية ويشجع على ذلك بدعوى الحداثة ومواكبة العصر تارة، وتوالت أثناء ذلك وفيما بعد، الهجمات الاستعمارية بعد أن سهل عليها إذابة تلك الأمة الوسط وتيسر لها مسخ هويتها وتغييب شعارها، فأصبحت حينذاك ذيلاً لتلك الحضارات الاستعمارية الناهبة لعقول شعوب العالم الإسلامي بعد ثرواتها، وتابعة لها – وذلك من شديد ما يؤسف له – في أحكامها وقوانينها بل وفى عاداتها وتقاليدها، وصارت بحيث (لو سلكوا حجر ضب خربٍ) لسلكته.

والغريب أن يحدث كل هذا لأمة الوحدة والتوحيد والاعتصام بحبل الله، وأن نجد ممن هو محسوب على الإسلام وأهله من يتشجع له، في الوقت الذي نري فيه الأعاجم يعتزون بلغاتهم ونرى واحداً كالقائد الفيتنامي (هوشى مينه) يدعو أبناء أمته قائلاً: "لا انتصار لنا على العدو إلا بالعودة إلى ثقافتنا القومية ولغتنا الأم"، ويقول لهم في إحدى وصاياه: "حافظوا على صفاء لغتكم كما تحافظون على صفاء عيونكم، حذار من أن تستعملوا كلمة أجنبية مكان ما بإمكانكم أن تستعملوا فيه كلمة فيتنامية"، وعديدة هي تلك التصريحات التي تصدر في عديد من الدول التي لا تسمح بإدخال كلمة واحدة أجنبية على قاموسها اللغوي المصطلح عليه .. والأغرب أن نجد حتى هؤلاء المغضوب عليهم الذين قطعهم الله في الأرض أمماً، ومزقهم بين شعوب العالم كل ممزق، وأضحوا بحكم ذلك أصحاب لغات شتي .. نراهم – وقد تآلفت قلوبهم على إحياء لغتهم – يعتزون بالعبرانية التي كتبت بها توراتهم وماتت منذ ألفي سنة، ويعتمدونها في جميع شئون حياتهم تعليماً وإعلاماً وتواصلاً، حتى صاروا بذلك قوة تقض مضاجع المسلمين الكُثر في أنحاء العالم وتقلق راحتهم وتثنيهم عن نشر دينهم على نحو ما نرى الآن، وما ذلك إلا لهوان الأخيرين وتهاونهم عن الاعتزاز بلغتهم ودينهم.

وللاطمئنان أقول: إن علماء اللغة المحدثين قرروا أن اللغات التي يُظن بها السيادة اليوم – مهما بذل أهلها من جهد – لا تملك أن تدفع عن نفسها عادية التغيُّر حتى إنها لتصير بعد فترة وجيزة كأنها لغات جديدة .. أما العربية فارتباطها بالقرآن الكريم الناسخ لما قبله والمهيمن عليه، جعل لها ظرفاً خاصاً لم يتح لأي لغة من لغات العالم كلها، ولولا أن الله شرف الفصحى فأنزل بها كتابه وقيض لهذا الكتاب من خلقه من يتلوه صباحا مساء، ووعد بحفظه على تعاقب الأزمان .. لأمست كغيرها .. لغة أثرية، ولسادت اللهجات العربية المختلفة في نواحي الأرض العربية، ولازدادت على مر الزمان بُعداً عن الأصل الذي انسلخت منه [ينظر فصول في فقه العربية414 وفضل العربية35،36]، ولمثل هذا وبمثله سيكتب لها – بفضل الله ومشيئته – الخلود، وصدق الله القائل: "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .. الرعد/17".

ونخلص من كل هذا إلى أن العربية من الدين، وأن تعلمها لفهم مقاصد الكتاب والسنة قربة من أجلّ ِالقربات إلى الله تعالى، وأن تغييبها عن ساحة الحوار تحت أي مبرر صدٌّ عن سبيل الله، وصدع لا يَُرأب، وذنب لا تُقبل له توبة، وجريمة لا تُغتفر في حق هذه الأمة المنوط بها قيادة العالم وريادته .. لأن ذلك يعني صرف المسلمين عن منهج دينهم وعماد شريعتهم ودستور حياتهم وهو القرآن الكريم، فإن اللسان العربي على حد قول ابن تيمية – سالف الذكر – شعار الإسلام وأهله الذي به يتميزون.

وعلينا إن كنا نريد بعثاً لهذه الأمة من جديد وريادةً للعالم على طريق الصلاح والإصلاح .. أن نوثق صلتنا أولاً بهذه اللغة العريقة وأن نتفانى في تعلمها وتعلم بلاغتها، وأن نجعل ذلك قربة نتقرب بها إلى الله وديناً ندين الله عليه.

والله نسأل أن يعيننا على ذلك وعلى فهم كتابه والعمل له وبه، وأن يقوي بذلك إيماننا وأن يوثق أواصر الصلة بين أممنا .. إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وهو نعم المولى ونعم النصير.

[المصدر: مجلة التوحيد عدد جمادى الآخرة ورجب1430]

ملحوظة مهمة: يرجى نشر هذا المقال وترجمته لغير العربية حتى يعلم مسلمونا في أرجاء العالم فرضية تعلم العربية، فيعتزوا بها ويتمسكوا – من ثم – بأهدابها.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير