تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هما آفة العلم والأدب.

ومن خصائص العربية تخطيها غيرها من اللغات الحية في طريق الاشتقاق، وتوغلها فيه، حتى صارت بعيدة جداً عن الشكل المزجي الذي لا تزال يقاياه محسوسة في غيرها، مانعة لإحكام التعبير في كثير من المواضع. ففي الإنجليزية أو الفرنسية للتعبير عن حدث يستعمل فعل وللدلالة على المطاوعة لا بد من مساعدة هذا الفعل بفعل مساعد. وكذلك للدلالة على المشاركة أو الطلب أو الأعمال. وهذا تعقيد لا محل له في العربية لأن الفعل الدال على الحدث تتغير صيغته للدلالة على كل ما ذكر، مع بقاء مادة الفعل في جميع الصيغ، وهذا مما يجعل العربية أوسع وأحكم في التعبير، وأبعد عن الشكل المزجي، وأخصر في أداء المعنى. فالفكرة التي يعبر عنها بكلمة (نستمنحكم) مثلاً يعبر عنها بالإنجليزية أو الفرنسية بسطر طويل.

ومن خصائص العربية أن جميع مشتقاتها تقبل التصريف إلا فيما ندر، وهذا يجعلها في طوع أهلها أكثر من غيرها وأوفى بحاجة المتكلمين. فإذا أردنا أن نرتب اللغات بحسب لياقتها للمدنية العصرية والحاجة العلمية من الأدنى للأرقى، وجب أن نجعل اللغات أحادية المقطع في المرتبة الدنيا، ثم اللغات المزجية، ثم اللغات الأوروبية، ثم اللغة العربية أرقى اللغات وأمثلها للعلم. فهي لغة غزيرة المواد، واسعة المعاني دقيقة المباني، بسيطة، وقد جمعت بين السهولة وإحكام التعبير وهذا ما يطلبه العلم والأدب ويساعد على انتشارهما، لذلك حق القول بأن العربية أليق اللغات بالعلوم والأدب وأكبر عون على نشرهما متى تهيأت الوسائل الأخرى. وما يطنطن به البعض من قصورها، إنما هو جهل بها، أو لغرض يصعب إخفاؤه. وإدعاء أن الاستكشفات كثيرة، وليس في العربية كلمات للدلالة عليها، اعتراض ضخم في الظاهر فارغ في الحقيقة، وما مثله إلا كفارغ بندق خلى من المعنى، ولكن يقرقع.

إن هذا الاعتراض يصدق على جميع اللغات، لأن اللغات ما دامت موضوعة فألفاظها إنما وضعت طبقاً لما هو معلوم، لا لما هو مكنون في طي الخفاء والغيب، فكل مستكشف كان غير معلوم ومستكشفه يصطلح له على لفظ يتخذ اسماً له، وباب الاصطلاح ليس مغلقاً في العربية ومفتوحاً في غيرها. ولو أمعنا النظر لوجدنا أنه لا حق أن تدعي بأن اللفظ الذي يوضع اصطلاحاً لمعنى جديد هو من لغة تلك الأمة دون غيرها بعد أن لم يكن في لغاتها، فهل يجوز للإيطاليين مثلاً أن يدعوا بأن لفظ (بوجنفليا) إيطالي في حين أن اللفظ نفسه لم يكن في الإيطالية، وغاية الأمر أن النبات الذي سمي هذا الإسم استكشفه شخص اسمه (جنفل) وضم إليه كلمة (بو) أي جميل وجعله بهيئة الكلمات اللاتينية، وكان ذلك غريباً عن جميع اللغات، ويجوز لأي أمة أن تصطلح على أي لفظ في لغتها لذلك النبات ففي مصر استعمل له لفظ (جهنمية)، من باب الإصلاح للدلالة عليه، وما يقال في هذه الكلمة الاصطلاحية يقال طبعاً في باقي الاصطلاحات، وادعاء العدول عن الفصحى إلى العامية لمثل هذه الاصطلاحات لا محل له، لأن هذه الاصطلاحات التي كانت مجهولة من الفصحى لم تكن معلومة للعامة ومسماة في لغتهم والمعقول أن هذه الإصطلاحات يستعملها العلماء أولاً ثم تصل إلى العامة بنشر العلماء لها وبثها بين الناس.

ثم ما هو المراد بقولهم (اللغة العامية) أهو شيء آخر غير العربية؟ إننا إذا تتبعنا الكلمات والتراكيب العامية لم نجد فيها إلا قليلاً جداً من الكلمات المستحدثة عن الخلط، وهذا لا تتألف منه لغة، ولا يصح بسببه القول بأن لغة فيها نصف مليون كلمة لغة ميتة أو قاصرة وليس فيها ألفاظ تدل على المعاني المستحدثة التي يقتضيها التمدن العصري. نعم إن في العامية كلمات عربية ينطق بها كثير من الناس محرفة، وتراكيب عربية لم تُراعَ فيها القواعد النحوية، ولكنا نجد بجانب ذلك أن هذا التحريف وعدم مراعاة القواعد ليس واحداً عند الناس ولا متفقاً عليه بل كل واحد يذهب فيه ما شاء، فهو مختلف باختلاف الأفواه من غير قاعدة ولا رابطة، شأنَ كل تغير يكون حصل لا عن ضرورة إليه، بل عن الجهل، والجهل لا يكون إلا من عدم التعلم. وبسبب حصول هذه التراكيب على غير قواعد اللغة نرى المتكلم مضطراً دائماً بحسب الموضوع إلى الإشارة باليد والوجه وإجهاد نفسه لبيان حقيقة المعنى المقصود، والكاتب يستعيض عن هذه الإشارة والحركات

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير