تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

مفاجئ أو متباطئ في النسب أو السلالة. ولا تزال هذه العائلات البيروتية تتكنى، حتى اليوم، بالكنية عينها من دون أن يطرأ عليها أي تغيير في الإسم أو استبداله بإسم آخر. وفي أي حال، قد تستبطن هذه المقدمة في ما تختزن من معلومات ظاهرة أو خفية، أن توافد العائلات الى بيروت من مختلف البلدان العربية الإسلامية، راح يتميّز، بمرور الأزمنة، بهامش واسع جداً من الثبات والديمومة والبناء العمراني والتجذّر الثقافي. والملاحظ أيضاً، أن هذه الميزة المثيرة للدهشة والجدل والتقدير، سرعان ما أصبحت من نسيج المدينة. والأهم أنه بات لديها القدرة الاجتماعية الثقافية على التوغل عميقاً في روح المدينة المتحركة وأيضاً في مساماتها التي أظهرت حيوية استثنائية على التنفس التلقائي في بيئة ملائمة أُعيد صوغها وفقاً لمصالح هذه العائلات وديمومة بقائها. لا شيء في مقدمة المؤرخ حسان حلاّق يشير الى نقيض ذلك. ومما يمكن استقراؤه في المقدمة، أن عدداً وفيراً من العائلات التي قدمت الى بيروت لأغراض عسكرية دفاعية لحماية الثغور والجغرافيا العربية الشاسعة في تلك الأثناء، كان بمقدورها أن تعود عن هذه المهمات "المقدسة" إذا جاز التعبير، فور الانتهاء من تنفيذها ليصار الى استقدام عائلات أخرى للغرض عينه. لم يحدث هذا الأمر في بيروت وإن كان متوقعاً حصوله في عالم عربي إسلامي كان محط أنظار إمبراطوريات وقوى متوثبة الى إحكام السيطرة عليه. من المرجّح، في هذا الإطار، أن العائلات العربية التي هاجرت الى بيروت واستقرت فيها لأغراض بدت خارجة عن إرادتها للوهلة الأولى، عادت وغيّرت في أولوياتها. لم تعد إقامتها في بيروت موقتة أو مرهونة بتعاقب المستجدات والأحداث. أصبحت، بدلاً من ذلك، أصيلة تستحوذ على رغبة حقيقية في البحث عن حياة أخرى أكثر انسجاماً مع أمزجتها.

ولعلّ هذه الإقامة التي بدت متأرجحة في البدء أصبحت مشروعاً دائماً لا فكاك منه. ذاكرة العائلات البيروتية قد تبدو هذه التطورات جزءاً لا يتجزأ على الأغلب من ذاكرة العائلات البيروتية، وبالتالي احدى الحقائق الثابتة التي تنطوي عليها ذاكرة المدينة. بديهي في هذا الإطار، أن تعزى مكونات بيروت الثقافية والاجتماعية والسياسية الى تلك المراحل المتعاقبة التي كانت تشهد، على نحو ديناميكي، متقاطرين مجدداً منذ بداية الفتح الاسلامي اضافة الى القاطنين في ارجائها منذ أزمنة سبقت قيام الدولة الاسلامية ومتفرعاتها بعد ذلك التاريخ. والأرجح ان بمقدورنا ان نلحظ مرونة التركيبة الاجتماعية وقابليتها الفذة على استيعاب موجات متتالية من الهجرات العربية اليها، بدت بيروت، في تلك الاثناء المتقادمة على امتداد قرون طويلة، وعاء ديمغرافياً مهيأ لاستقبال الافكار والثقافات والتقاليد والعلوم التي كان الوافدون اليها يستقدمونها معهم. ولعلها حافظت على هذا النهم إلى الجديد، من دون ممانعة متزمتة انسجاماً مع شخصيتها المتحولة في عالم متحول. ظهر ذلك، على وجه التحديد، منذ البدايات الاولى للاحتكاك الثقافي والسياسي مع الغرب المتأهب الى السيطرة على المنطقة. الى هذا الإرث الثقافي المتجذر في طبعها، استندت بيروت في تلقفها شرارات الحداثة بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر وصولاً الى خمسينيات القرن الماضي عندما تحولت بيروت بوصلة وحيدة للفكر والثقافة والفنون في الوطن العربي.

يشير د. حلاق في مقدمة موسوعته الى ان الهجرات المغربية الى بيروت، شكلت الموجات البشرية الاولى التي تنسب اليها العائلات البيروتية العريقة. يليها الموجات الاندلسية والمغربية التي اخذت في القدوم الى المدينة قبل ان تسقط الاندلس العربية. اعقب ذلك الموجات الشامية، ومن بعدها الموجات المصرية وتحديداً مع نجاح والي مصر، محمد علي باشا الكبير، في السيطرة على البلاد السورية بين اعوام 1830 1840. وكانت موجات حجازية ويمنية قد سبقت مثيلاتها الى اختيار بيروت مكاناً دائماً للاقامة. ويبدو أن موجات فلسطينية قد سبقت أو تزامنت مع نظيراتها الاخريات، وربما سبقتها الى الارتحال الى بيروت منذ العهدين الكنعاني والفينيقي. وتوطدت بعد ذلك ابان الفتح الاسلامي. ثم عادت وتسارعت وتيرتها مع نكبة فلسطين وقيام الكيان الصهيوني. وبين هذه وتلك، كانت بيروت تستقبل موجات أيوبية ومملوكية وعثمانية وايرانية. يضاف الى هذه الشرنقة المذهلة من التجاذب البشري على الاستيطان في بيروت، هجرات داخلية من مختلف المناطق اللبنانية الى بيروت. اجتماع بشري نادر ان هذه اللوحة الفسيفسائية النادرة لاجتماع بشري قل مثيله في مدينة عربية اخرى، شكل المعالم الثقافية الاجتماعية الاولى لمدينة بدت على الدوام في طور التكون العميق. والأغلب انها لا تزال كذلك بدليل أنها تتعرض منذ قرابة العقود الأربعة لموجات اخرى اشبه بالجحافل هذه المرة التي تستميت لإحداث شرخ عميق في طبيعتها الانسيابية المتراكمة منذ أقدم الأزمنة ....

[الكتاب: موسوعة العائلات البيروتية .. [الجذور التاريخية للعائلات البيروتية ذات الاصول العربية واللبنانية والعثمانية (المجلد الأول)

[الكاتب: د. حسان حلاق [الناشر: بيروت، دار النهضة العربية، 2010

==================

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير