تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

للقومِ شعارٌ عجيبُ في هذه (المساوَقة) وهو (اِطْرَبْ تُؤْجَرْ) معَ أنَّ الطَّربَ كلمةٌ عربيةٌ ذاتُ مدلولٍ واضحٍ لا يحتملُ الليَّ مطلقاً قال الراغبُ في المفرداتِ معرِّفاً كلمةَ الطَّربِ (وهُو خِفَّة أكثرُ ما تعتَري مِن الفَرَحِ , وقد يُقالُ ذلكَ في التّرح) ولا نحتاجُ للتحقُّقِ من القومِ هل يريدونَ بشعارهم فرحاً أو ترحاً فقد صرَّحوا غيرَ مرةٍ أنهم يسعون لاستبدالِ طربِ الناسِ بالغناءِ بطربهم بالقرآنِ , ولم نسمع عن طالبِ موعظةٍ في أغنيةٍ , فإذا عُلمَ ذلك وجبَ علينا تأمُّلُ كتاب الله الذي حكى أحوالَ المستمعينَ للقرآنِ الكريمِ لعلنا نجدُ ما يستدلُّ بهِ القومُ على هذا الشعارِ , إذْ لم يُبينِ القائمونَ على هذا العبَثِ أيَّ نصٍ هذا الذي نتجَ لهم من لَيِّهِ استجازةُ قرنِ الطَّربِ بسماعِ كتابِ اللهِ تعالى وترتيبُ الأجرِ عليهِ.

إنَّ اللهَ بينَ في مُحكَمِ كتابهِ شعورَ الأسوياءِ من عِبادهِ إذا تُليتْ عليهم آياتُ اللهِ فقال {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} , قال القرطبيُّ رحمه الله (وصَفَ اللهُ أحوالَ أهل المعْرفَةِ عِندَ سَماع ذكْرهِ وَتلاَوةِ كتَابهِ فقال: "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) فَهذَا وصفُ حالِهِم وحِكايةُ مَقالِهمْ , ومَن لَمْ يَكنْ كذلك فَليْسَ علَى هَديِهمْ ولا علَى طريقَتهِمْ، فَمنْ كانَ مُسْتَنًّا فَليَستَنَّ، ومَن تَعاطَى أَحوَالَ المَجانِينِ والجُنونِ فهُو مِن أخسِّهمْ حالاً، والجُنُونُ فنُونٌ.) , قال أبو زيدٍ الشنقيطيُّ: ومن تأمَّلَ عاقبةَ أولئكَ المستمعينَ لكتاب الله والفائضةِ عيونُهم دمعاً يجدُ الله أثنى عليهم بقوله (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) في إشارةٍ إلى أنَّ هذه الحالةَ عند سماعِ القرآنِ هي أحسنُ أحوالِ العارفين بالله , خلافاً للزعيقِ (يا سلام عليك.!! , ينصر دينك.!! , وحياة ربنا لا تْعيدها تاني , ايه الحلاوة دي يا مولانا) وغير ذلك من عبثِ الشيطانِ بمتتبعي النغمِ دون الكلِمْ , وهذه الأحوالُ العبثيةُ تتنافى مع ما ذهب إليهِ بعضُ المفسرينَ من أنَّ أنه إسنادَ الفيض إلى الأعينِ في هذه الآيةِ آتٍ سبيل المبالغة في البكاء.

وقال سبحانهُ وتعالى بعد أن ذكَرَ من ذكَر من أنبيائهِ ورُسلهِ في سورةِ مريمَ مثنِياً عليهم وعلى أتباعهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} في إشارةٍ منهُ سبحانهٍ إلى أنَّ أولئكَ البررةَ إذا سمعوا آيات ربهم وتُليتْ عليهم مواعظهُ وأنباءُهُ تأثَّروا تاثراً عظيماً، يحملُهمْ على البُكاء والسجودِ , فأينَ هذه النتائجُ لسماعِ القرآنِ التي ظهرت على الأنبياء الذين خاطبنا الله فيهم بقوله (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) من رميِ الأقلامِ والصياحِ إعجاباً بالنَّغمِ وإهمالاً للفحوى فنسألُ اللهَ أن يعصمنا من أن نكونَ من جملةِ الخلَفِ الذين ذكرهم الله عقب هذه الآيةِ , وإنَّ أخوفَ ما يُخافُ على من تبعً النغمَ وأهملَ المعاني التي هي ثمرةُ السماعِ أن ينالهُ حظٌ من قوله تعالى (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ) فكيف يقولُ عاقلٌ لمن يقرأُ (وَيَخْلُدْ فيهِ مُهَاناً) يا سلامْ عليك هاتْها تاني وْسمَّعْنا النَّهاوند كدهْ.!!

والسامعُ للقرآنِ لا يخرجُ عن صنفينِ بينهما الله , صنفٌ يسمعُ سماعاً مجرداً وهذا يكونُ القرآنُ في حقهِ بياناً إذا فهمَ العربيةَ , وصنفٌ يكونُ سماعهمْ باعثاً إلى التقوى والقرآنُ في حقِّ أولئكَ موعظةٌ لأنَّهم أهلُ تقوى فلا يسمعونه إلا اتعظوا به (هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) , ولذلك وقال الله تعالى {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وللعاقلِ المنصفِ أن يقارنَ بين هذه الحالِ المحمودةِ عند سماعِ الذِّكرِ وبين الطربِ الذي هو خفةُ فرحٍِ واستبشارٍ فأين (اطربْ تُؤجرْ) من معنى هذه الآيةِ.؟

ولي عودةٌ إلى هذه النقطةِ وغيرها أكملُ بها ما ابتدأتهُ والله الهادي.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير