وتقدمت دراسة الأصوات اللغوية في العقود الأخيرة لدى الغربيين، واستفادت كثيراً من مختبرات الصوت والأجهزة الحديثة التي تستعمل في دراسة الصوت وتحليله، وتنوعت مناهج تلك الدراسة ووسائلها وموضوعاتها، وتمخض عن ذلك ثلاثة فروع لعلم الأصوات، هي:
(1) علم الأصوات النطقي، ويعنى بعملية إنتاج الصوت اللغوي.
(2) علم الصوت الفيزياوي، ويعني بطبيعة الصوت الإنساني، وكيفية انتقاله من مصدر التصويت إلى أذن السامع.
(3) علم الأصوات السمعي، ويعنى بكيفية إدراك الإنسان للصوت اللغوي.
وانعكست آثار ذلك التقدم في دراسة الأصوات اللغوية على كتابات الأصواتيين العرب، وظهر عدد من المؤلفات التي تستند إلى ما تحقق من تقدم في مجال دراسة الأصوات، لكن دراسة علم التجويد ومؤلفاته في العصر الحديث ظلت في معزل عن ذلك كله، ومن هنا صار يُنظر إلى العلمين كأنهما مختلفان موضوعاً ومنهجاً، لكنهما في الحقيقة من وادٍ واحد، ويؤولان إلى أصل واحد، ولعل في النظر في تاريخ العلمين وطبيعة كل منهما والموضوعات التي يتناولانها ما يؤكد ذلك، وهذه نظرة سريعة في تلك الجوانب:
(1) النشأة: إن "علم التجويد" أقدم نشأة من (علم الأصوات) بما يقرب من عشرة قرون، فالمؤلفات الجامعة في علم التجويد ظهرت في منتصف القرن الخامس الهجري، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار سبق الغربيين إلى تأسيس علم الأصوات الحديث منذ القرن السابع عشر أو القرن الثامن عشر، فإن علم التجويد يظل أقدم نشأة منه بستة قرون أو سبعة قرون.
(2) التسمية: إن مصطلح " علم التجويد " استعمل للدلالة على المباحث الصوتية المتعلقة بقراءة القرآن الكريم، وكانت تلك المباحث مختلطة بالمباحث النحوية والصرفية لدى علماء اللغة العربية، ولم يفردوها بمصطلح خاص أو علم مستقل، وقد حاول ابن جني ذلك في كتابه (سر صناعة الإعراب) حين عبَّر عن موضوع الكتاب بـ (علم الأصوات والحروف)، لكن من جاء بعده من علماء العربية لم يوفقوا في استثمار تلك اللمحة من ابن جني والبناء عليها، حتى تمكن علماء قراءة القرآن بعده من استخلاص المباحث الصوتية من كتب علماء العربية، وأفردوها في كتب خاصة، واختاروا لها تسمية جديدة، كانت في أول الأمر تتكون من عنصرين: الأول المخارج والصفات، والثاني التجويد والإتقان، فسمَّى مكي بن أبي طالب كتابه " الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة بعلم مراتب الحروف ومخارجها وصفاتها وألقابها "، لكن معاصره أبا عمرو الداني سمى كتابه " التحديد في الإتقان والتجويد "، ثم غلبت كلمة التجويد في عناوين الكتب التي ألفها العلماء في العلم من بعدهما.
أما مصطلح " علم الأصوات اللغوية " فإنه مصطلح جديد، استعمله المتخصصون بعلم اللغة العربية في العصر الحديث، وجاء ترجمة للمصطلح الغربي الدال على هذا العلم، ودرسوا تحته مباحث صوتية قديمة سبق إلى دراستها علماء العربية والتجويد، ومباحث صوتية جديدة نقلوها من الدرس الصوتي الغربي، على نحو ما يتبين في الفقرة الآتية.
(3) الموضوعات: تتلخص موضوعات علم التجويد في ثلاثة أمور، هي:
أ: معرفة مخارج الحروف.
ب: معرفة صفات الحروف.
ج: معرفة الأحكام الناشئة عن التركيب، مثل الإدغام والإخفاء، والترقيق و التفخيم، والمد والقصر، وغيرها من الموضوعات الصوتية المتعلقة بقراءة القرآن الكريم.
وتعد هذه الموضوعات من أهم موضوعات علم الأصوات اللغوية المعاصر، لكن هذا العلم يدرس اليوم إلى جانب ذلك موضوعات أخرى بعضها يتعلق بعلم الأصوات النطقي، مثل آلية إنتاج الصوت اللغوي، والمقطع الصوتي، والنبر والتنغيم، وبعضها يتعلق بعلم الصوت الفيزياوي وعلم الصوت السمعي، وبعض هذه الموضوعات الصوتية الحديثة مما يحتاج إليه دارس علم التجويد، لو أتيح له الاطلاع عليها.
(4) المصطلحات: يستخدم علم أصوات العربية المعاصر معظم المصطلحات الصوتية التي استخدمها علماء العربية والتجويد،وقد فضَّل بعض الدارسين مصطلحات عربية جديدة جاءت ترجمة للمصطلحات الصوتية الغربية، ففي الوقت الذي استخدم فيه معظم المحدثين مصطلح المجهور والمهموس، فإن بعضهم آثر مصطلح الانفجاري والاحتكاكي بدلاً من الشديد والرخو، ولا يزال موضوع المصطلح الصوتي عند المحدثين من الموضوعات التي يكثر فيها الاختلاف والاضطراب، لاسيما في التعبير عن المفاهيم الصوتية الحديثة، وبعض ذلك راجع إلى عدم اطلاع الأصواتيين العرب المحدثين على كثير من التراث الصوتي عند علماء التجويد.
(5) وسائل الدراسة: اعتمد علماء العربية الأوائل وعلماء التجويد على الملاحظة الذاتية والتجربة الشخصية في دراسة الأصوات، ولا تزال هذه الوسيلة من الوسائل المهمة في الدرس الصوتي الحديث، لكن التقدم العلمي قد وضع في أيدي علماء الصوت وسائل جديدة تعتمد على الأجهزة الحديثة، وتمكنوا من خلالها من إحراز تقدم هائل في فهم الصوت اللغوي والكشف عن أسراره، ولا يستغني المشتغلون بعلم التجويد وتعليم قراءة القرآن من الاستفادة من هذه الوسائل الحديثة، إذا ما توفرت المستلزمات الضرورية لذلك.
ويبدو من خلال هذا العرض الموجز أن أصل العلمين واحد، وأن الموضوعات التي يدرسانها واحدة، سوى أن علم التجويد يركز على المباحث الصوتية التطبيقية المتعلقة بقراءة القرآن، وأن علم الأصوات يعنى بكل المباحث المتصلة بأصوات اللغة، وأحسب أن ما يبدو من اختلاف بين العلمين في بعض الموضوعات والمصطلحات والوسائل إنما هو خلاف شكلي سوف يتلاشى في المستقبل القريب، إن شاء الله تعالى، بسبب زوال الموانع بين المشتغلين في ميدان التجويد والمشتغلين بعلم الصوت الحديث، وحرص الكثير منهم على خدمة القرآن الكريم بأحدث ما وصل إليه العلم، مع عدم التفريط بثوابت القراءة القرآنية، هذا والله تعالى أعلم.
¥