[وقوف المصاحف (من إجوبة الدكتور مساعد الطيار لملتقى أهل الحديث)]
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[19 Jun 2003, 01:47 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
قال السائل: ما رأيكم بالعلامات الموجودة في المصاحف الآن ,وهل يجب أن يلتزم بها القارئ للقرآن؟
الجواب:
إن الأصل في وقوف القرآن أنَّها مبنية على الاجتهاد، وليس هناك وقف يحرم أو يجب إلا بسببٍ.
ومبنى الوقوف على المعنى، لذا يعاب على من لم يحرر المعاني في الوقوف، لكنه لا يصل بعمله هذه إلى الحرمة.
والحرمة والوجوب تحتاج إلى دليل شرعي؛ إذ أنها تدل على فعل شيء يخالف الشريعة، وليس ذلك في الوقوف القبيحة التي حكم العلماء عليها بالقبح.
وتعمد الوقف على ما لا يحسن الوقف عليه فعل قبيح بلا إشكال، لكنه لا يصل إلى حدِّ الحرمة إلا إذا كان يعتقد ذلك المعنى القبيح، وإذا كان يعتقد ذلك المعنى القبيح فإنه آثم سواءً أكان في حال قراءة أم كان في غيرها.
فمن وقف على قوله: (يد الله مغلولة)، وهو يعتقد هذا المعنى ويريده، فهو آثم باعتقاده قبل وقفه، والله أعلم.
أما التزام القارئ بها من أجل تحسين الأداء وتبيين المعاني، فإنها إنما جُعلت لهذا الغرض، وإذا كان هذا هو الغرض منها فالتزامها أولى من تركها، مع مراعاة أن تركها ليس فيه إثمٌ.
وهذه العلامات الموجودة في المصاحف مأخوذة من وقوف السِّجاوندي (ت: 560) من كتابه الكبير (علل الوقوف)، ووقوفه هي: الوقف اللازم، وعلامته (م)، والوقف المطلق، وعلامته (ط)، والوقف الجائز، وعلامته (ج)، والوقف المجوز لوجه، وعلامته (ز)، والمرخص ضرورةً، وعلامته (ص)، وما لا يوقف عليه، وعلامته (لا).
وقد بقيت هذه الوقوف إلى هذا العصر، وهي المعمول بها في مصاحف الأتراك والقارة الهندية.
أما المصحف المصري وما انبثق عنه كمصحف المدينة النبوية المطبوع بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، فإنه استفاد من وقوف السجاوندي وإن كان خالفه في بعض مواطن الوقف أو في الزيادة عليه في المصطلحات التي هي في الحقيقة نابعة منه، ووقوف هذه المصاحف هي: الوقف اللازم، وعلامته (م)، والوقف الجائز، وعلامته (ج)، والوقف الأولى، وعلامته (قلى)، والوصل الأولى، وعلامته (صلى)، ووقف المعانقة، وعلامته ( .. .. ) ثلاث نقاط على جملة المعانقة أو كلمتها، والوقف الممنوع، وعلامته (لا).
ولعلك تلاحظ أنه لا يوجد فيها الوقف المطلق والوقف المرخص ضرورة والوقف المجوز لوجه التي هي من وقوف السجاوندي. كما تجد في المصحف المصري ومن تبعه وقف المعانقة والوقف الأولى والوصل الأولى، وهذه لم ينص عليها السجاوندي، لكن بالنظر إلى أنواع الوقف الجائز عنده وباستقراء علله تجد أنها موجودة عنده، وإن لم ينصَّ عليها.
وباستقراء تطبيقات الوقف الجائز عند السجاوندي (ت: 560) ظهر أنه على مراتب ثلاثٍ:
1 ـ ما يستوي فيه موجب الوقف وموجب الوصل، وهو الذي اصطلح عليه بأنه (الجائزُ).
2 ـ ما يكون الوصل فيه أولى من الوقف، وهو الذي اصطلح عليه بأنه (المجوز لوجه).
والوقف المجوز لوجه عنده: ما تكون علة الوصل فيه أقوى من علة الوقف، لكن يجوز الوقف لأجل هذه العلة المرجوحة.
3 ـ ما يكون الوقف فيه أَولى من الوصل، وهذا القسم لم يذكر له مصطلحاً كالسابقين، غير أنه ظهر عنده في تطبيقاته، حيث ينصُّ في بعض مواطن الوقوف على جواز الوصل والوقف، ويرجح الوقف على الوصل.
ومن أمثلة ذلك الوقف على لفظ (أزواجًا) الثاني من قوله تعالى: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجا يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) حيث حكم عليه بالجواز، وقال في عِلَّةِ ذلك الوقف الجائز: (لأن الضمير: (فيه) قد يعود إلى الأزواج الذي هو مدلول قوله: (أزواجًا)، والأصح أنه ضمير الرَّحِم، وإن لم يسبق ذكره، فكان الوقف أوجه).
* وأما وقف التعانق أو المعانقة المرموز له بالنقاط الثلاث، فقد كان يسمى عند المتقدمين وقف المراقبة، وأول من نبه عليه أبو الفضل الرازي (ت: 454). [النشر لابن الجزري 1/ 238].
وعرَّفه أبو العلاء الهمذاني (ت: 569)، فقال: (المراقبة بين الوقفين: أن لا يثبتا معًا، ولا يسقطا معًا، بل يُوقف على أحدهما). [الهادي إلى معرفة المقاطع والمبادي (رسالة علمية لم تطبع) (ص: 55)].
وقد أشار إلى هذا الوقف السجاوندي (ت: 560) في قوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ... ) [المائدة: 31 ـ 32].
قال: ( ... (النادمين) ج. (من أجل ذلك) ج، كذلك؛ أي هما جائزان على سبيل البدل، لا على سبيل الاجتماع؛ لأن تعلُّق (من أجل) يصلح بقوله: (فأصبح)، ويصلح بقوله: (كتبنا)، وعلى (أجل ذلك) أجوز؛ لأن ندمه ـ من أجل أنه لم يوارِ ـ أظهر).
وهذه الوقوف لا ينبغي التهييج عليها لانتشارها بين المسلمين في مصاحفهم، وليس فيها ما يوجب الخطأ المحض، إذ هي اجتهادات اجتهد فيها علماء أفذاذ، واتباعها أولى من تركها.
كما أنَّ من كان له اجتهاد وخالفهم في أماكن الوقف أو في مصطلحاته فإنه لا يشنَّع عليه أيضًا.
لكن لا تُجعل اجتهادات الآخرين في الوقوف سبيلاً إلى التشنيع على وقوف المصحف، ولو ظهرت صحتها؛ لأنَّ في ذلك استطالة على جلالة المصحف، وجعل العمل فيه عرضة للتغير، وذلك ما لا ينبغي.
لكن لو عمل الإنسان لنفسه وقوفًا خاصة به لرأي رآه، واجتهاد اجتهده، فإنه لا يثرَّب عليه أيضًا؛ لأن أصل المسألة كله مبناه الاجتهاد.
¥