أقول: هل في هذا القول، وأمثاله ما يرد على تلك الشبهة المسمومة، ويسكت صاحبها، أم نحاول أن نبحث عن سر وجود هذه الواو في هذا المكان، الذي ترفض قواعد البصريين أن توجد في هذا المكان؛ لأنه جواب (لما)، والقاعدة التي وضعوها: (لا يجوز أن يقترن جواب الشرط بالواو). وإلى هذا أشار النحاس بقوله عند تفسير آية الصافات، قال:” وجواب {لما} محذوف عند البصريين. أي: فلما أسلما، سعدا، وأجزل لهما الثواب .. وقال الكوفيون: الجواب {وناديناه}، والواو زائدة .. والواو من حروف المعاني فلا يجوز أن تزاد “.
فالقضية ليست قضية إعجاز؛ وإنما هي قضية قاعدة نحوية، وضعها النحاة البصريون، وتبعهم فيها المتأخرون، والمعاصرون .. ولو كانت قضية إعجاز، لما سمحوا لأنفسهم بأن يقولوا بزيادة كثير من الحروف في القرآن الكريم بحجة التأكيد، وهم لا يقولون ذلك إلا في المواضع، التي يتعذر عليهم فيها تقدير كلام محذوف، كقولهم لزيادة (لا) في قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد}، ونحو ذلك كثير، لا يخفى على المشتغلين بعلم النحو والبلاغة والتفسير.
خامسًا- أنقول هذا، أو نقول ذاك؟؟؟ أم نقول: الواو ليست بزائدة، وليس الجواب بمحذوف؛ وإنما الجواب هو كما قال الفرَّاء {أوحينا}؛ ولكن ليس على زيادة الواو ..
ومعنى الآية الكريمة: أن الله سبحانه، لما أراد أن يطمئن يوسف- عليه السلام- ويؤنسه في وحشة البئر، بشَّره بما سيؤول إليه أمره. وقد تم ذلك في الوقت الذي ذهب به إخوته، وأجمعوا على أن يجعلوه في غيابة الجب، في هذا الوقت جاءته البشرى من ربه جل وعلا، والواو الجامعة هي التي دلت على هذا المعنى .. والدليل على ذلك:
أولاً- قوله تعالى في آخر السورة: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف:102 (.
ثانيًا- قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} (يوسف:70). فالجواب هنا هو قوله تعالى: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ}، وهذا لا يختلف عليه اثنان.
اسمعوا ما قاله الفرَّاء في تفسير هذه الآية الكريمة، قال:” وربما أدخلت العرب في مثلها الواو، وهي جواب على حالها؛ كقوله في أول السورة: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ}، والمعنى والله أعلم: أوحينا إليه .. وهي في قراءة عبد الله: {فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ وجَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ}، وفي قراءتنا بغير واو. ومثله في الكلام: لما أتاني، وأثب عليه .. وكأنه قال: لما أتاني، وثبت عليه. وربما أدخلت العرب في جواب (لما) (لكن)، فيقول الرجل: لما شتمني، لكن أثب عليه؛ فكأنه استأنف الكلام استئنافًا، وتوهم أن ما قبله فيه جوابه. وقد جاء في الشعر كل ذلك، قال امرؤ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل .. “
ومثل ذلك ما قلته في جواب قوله تعالى {فلما أسلما وتله للجبين}: قلت: الجواب هو قوله تعالى: {وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا}، ولكن ليس على زيادة الواو. والدليل على ذلك:
أولاً- ما رواه الطبري عن عكرمة- رضي الله عنه- فقال:” حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين عن يزيد عن عكرمة، قوله: {فلما أسلما وتله للجبين}، قال: أسلما جميعًا لأمر الله، ورضي الغلام بالذبح، ورضي الأب بأن يذبحه، فقال: يا أبت! اقذفني للوجه؛ كيلا تنظر إلي، فترحمني، وأنظر أنا إلى الشفرة، فأجزع؛ ولكن أدخل الشفرة من تحتي، وامض لأمر الله. فذلك قوله: {فلما أسلما وتله للجبين}. فلما فعل ذلك {ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين“.
ثانيًا- ما حكاه الفخر الرازي عن المفسرين من قولهم:” لما أضجعه للذبح نودي من الجبل: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا “ ..
¥