خامسًا- واختار ابن عاشور القول الأول من القولين، الذين ذكرهما الألوسي، ووصف القول الآخر، الذي يقول بأن الجواب محذوف بالتكلف، فقال:” وقوله: {حتى إذا فشلتم}. (حتَّى) حرف انتهاء وغاية، يفيد أنّ مضمون الجملة الَّتي بعدها غاية لمضمون الجملة الَّتي قبلها، فالمعنى: إذ تقتلونهم بتيسير الله، واستمرّ قتلكم إيّاهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم.
و (حتَّى) هنا جارّة و (إذا) مجرور بها. و (إذا) اسم زمان، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقاً كما هنا، ولعلّ نكتة ذلك أنَّه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعاً لقوله: {تحسونهم}.
و (إذا) هنا مجرّدة عن معنى الشرط لأنَّها إذا صارت للمضيّ انسلخت عن الصلاحية للشرطية، إذ الشرط لا يكون ماضياً إلاّ بتأويل لذلك، فهي غير محتاجة لجواب، فلا فائدة في تكلّف تقديره: انقسمتم، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلاً عليه وهو قوله: {منكم من يريد الدنيا} إلى آخرها “.
سادسًا- أما الدكتور فضل حسن عباس فقال:” التقدير عندهم: حتى إذا فشلتم، تنازعتم في الأمر؛ لكن الفرَّاء، لم يرتض القول بالزيادة فحسب، بل غيَّر النظم الكريم، وقدَّم فيه، وأخَّر“.
ثم قال:” فقد ذكر الفرَّاء- هنا- عدة آيات عدَّ الواو فيها زائدة، وقال: إن الواو مآلها السقوط. والحق أن كلامه هو الذي يجب أن يكون مآله السقوط .. ولقد كان الفرَّاء توعَّد أبا عبيدة صاحب (مجاز القرآن) أن يضربه، إن هو لقيه على ما له من تأويلات لكتاب الله تعالى، لا تستقيم .. ولا أدري: أكان أبو عبيدة وحده، الذي يستحق أن يضرب على تأويلاته؟! “.
وانتهى من ذلك إلى القول: والواو في الآيات، التي ذكرها الفرَّاء جاءت في محلها غير قلقة، ولا نابية، وليس في النظم كذلك تقديم، أو تأخير .. أما آية آل عمران: {حتى إذا فشلتم .. } فقد قال الزمخشري فيها: فإن قلت: أين متعلَّق {حتى إذا}؟ قلت: محذوف، تقديره: حتى إذا فشلتم .. منعكم نصره .. فالواو إذن عاطفة .. “.
وهنا أذكِّر ثانية بأن الفرَّاء يحكي قول من سبقه، وبه أخذ الإمام الطبري، وإلى ذلك أشار الألوسي. وهذا يعني أن ما قاله الدكتور فضل عباس حسن لا يصيب الفرَّاء وحده، بل يصيب الطبري، وغيره من المتقدمين .. وشيء آخر أذكِّر به، وهو أن الإمام الطبري، حين اختار القول بحذف الجواب، لم يدفع قول الفرَّاء، ولم يخطِّئه، وهذا نصُّ قوله في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزمر:73):” وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: الجواب متروك، وإن كان القول الآخر غير مدفوع “.
وهذا القول غير المدفوع عند الإمام الطبري هو قول الفرَّاء، وهو القول، الذي قال فيه الدكتور فضل حسن عباس:” عدَّها الفرَّاء زائدة، قياسًا على الآية الأخرى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزمر:71). وهذا أمرٌ من الخطورة بمكان؛ فعلى هذا يمكن أن نعدَّ كل حرف ذكر في آية، ولم يذكر في أخرى زائدًا، وهذا إهمال للمعنى والسياق“. وكان هذا منه بعد أن اتهم الفرَّاء بسوء النظر والفكر، وتوعده بالضرب.
هذا غيض من فيض ذكرته لكم من أقوال علماء النحو والتفسير في آية واحدة من آيات القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، والذي أنزله الله تعالى علينا بلسان عربي مبين .. فبأي قول من هذه الأقوال نأخذ؛ لنردَّ به على قول الطاعنين في بلاغة القرآن؟ وأيُّ الأقوال هو الأولى بالصواب؟ أقول الطبري الذي اختاره في تفسير قوله تعالى: {حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها}؟ أم القول الآخر، الذي اختاره الفرَّاء، والذي قال الطبري فيه: (والقول الآخر غير مدفوع)، أم القول الذي اختاره ابن عاشور، وهو القول الذي يجعل من (حتى) - هنا- حرف جر، ومن (إذا) بعدها اسم مجرور؟ أم ... ؟
أم أن هذه الأقوال كلها مآلها السقوط- كما قال الدكتور فضل حسن عباس- وأن القول الذي اختاره هو القول المنزَّه من السقوط؟ وهل هذا القول يعتمد على منهج علمي صحيح، يكون فيه الرد الكافي الشافي على من يطعن في بلاغة هذه الآيات، وأمثالها؟ وإذا كان هذا القول يقنعنا نحن كمسلمين- مع أننا مقتنعين بعظمة القرآن بدونه- فهل يمكن أن يقنع أعداء المسلمين؟؟؟
أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات، فهل من مجيب؟
ولا يفوتني في الختام أن أتوجه إلى الأخ الفاضل (ناصر الماجد) بالتهنئة الصادقة، لحصوله على درجة الدكتوراه، متمنيًّا له كل خير وتوفيق. وله ولكل العاملين المخلصين خالص تحياتي وتقديري، ولمن ظن أنني أسأت إليه عن قصد، وتجنيَّت عليه من غير سبب أسفي واعتذاري، والحمد لله وحده لا شريك له، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[09 Jun 2005, 12:21 م]ـ
شكر الله لكم يا أبا الهيثم هذه المناقشات العلمية الموفقة، والنقول التي تدل على سعة الاطلاع، ودقة النظر. وأتفق معك في كل ما ذكرته من وجوب العناية برد شبهات الطاعنين في إعجاز القرآن وبلاغته، غير أن هذا يا أبا الهيثم لا يتسنى لكل أحد من المشاركين، وإنما يكون للقليل منا، ممن رزقه الله بسطة في العلم بلغة القرآن وتفسيره وبلاغته من أمثالكم وفقكم الله، وإن كانت المشاركة في رد مثل هذه الطعون شرفاً لكل من يذب عن كتاب الله هذه السهام الحاقدة التي لا تتوقف إلا ريثما تعود.
نسأل الله أن يرزقنا حسن التدبر والتأمل في كتابه الكريم، وأن يوفقنا لفهمه على وجهه، وجزاكم الله خيراً يا أبا الهيثم مرة أخرى.
¥