تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والخلد هو دوام البقاء في دار لا يخرج منها؛ كالدار الآخرة، وسمِّيت بدار الخلد، لبقاء أهلها فيها. وقوله تعالى: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} (الهُمَزَة:3). أي: يعمل عمل من لا يظن مع يساره أنه يموت.

وقوله تعالى: {إِلَى الْأَرْضِ} يحتمل أن يراد بالأرض: شهواتها ولذاتها وما فيها من الملاذ، قاله السدي وغيره. ويحتمل أن يراد بها: العبارة عن الأسفل والأخسِّ؛ كما يقال فلان في الحضيض. ويتأيد ذلك من جهة المعنى المعقول؛ وذلك أن الأرض وما ارتكز فيها هي الدنيا، وكل ما عليها فان، من أخلد إليه فقد حرم حظ الآخرة الباقية.

وعلى ذلك يكون الإخلاد إلى الأرض كناية عن الميل إلى التمتع بنعيم الدنيا وشهواتها وملذاتها. ويكون الكلام تمثيلاً لحال المتلبس بالنقائص والكفر بعد الإيمان والتقوى، بحال من كان مرتفعًا عن الأرض، فنزل من اعتلاء إلى أسفل. فبذكر (الأرض)، عُلمَ أن الإخلاد هنا ركون إلى السفل. أي: تلبس بالنقائص والمفاسد.

فإن قيل: الاستدراك بـ {لَكِنَّه} يقتضي أن يثبت بعدها نفي ما قبلها. أو ينفي ما أثبت؛ كما تقول: لو شئت لأعطيته؛ لكني لم أعطه، ولو شئت لما فعلت كذا؛ لكني فعلته. فالاستدراك يقتضي: ولو شئنا لرفعناه بها؛ ولكنا لم نشأ. أو فلم نرفعه. فكيف استدرك بقوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} بعد قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}؟

قيل: هذا من الكلام الملحوظ فيه المعنى، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني؛ وذلك أن مضمون قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أنه لم يتعاط الأسباب، التي تقتضي رفعه بالآيات من إيثار الله ومرضاته على هواه؛ ولكنه آثر الدنيا، وأخلد إلى الأرض، واتبع هواه.

ثالثًا- قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} تصوير لحال ذلك الكافر الضال، بحال الكلب الموصوف باللّهث، دلَّ على ذلك لفظ المثل بعد كاف التشبيه. والتقدير: فمثله في أحواله السابقة كحال الكلب في لهثه.

وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية، بأن يقال: (فصار مثله كمثل الكلب .. الخ}، للإيذان بدوام اتصافه لتلك الحالة الخسيسة، وكمال استقراره واستمراره عليها.

قال السدي وغيره: إن هذا الرجل عوقب في الدنيا بأنه يلهث؛ كما يلهث الكلب، فشبه به صورة وهيئة، وقال الجمهور: إنما شبه به في أنه كان ضالاً قبل أن يؤتى الآيات، ثم أوتيها، فكان أيضاً ضالاً، لم تنفعه؛ فهو كالكلب في أنه لا يفارق اللهث في حال حمل عليه، أو لم يحمل عليه.

وتحرير المعنى: أن الشيء، الذي تتصوره النفوس من حاله هو كالذي تتصور من حال الكلب. وبهذا التقدير يحسن دخول الكاف على مثل. واستعمال القرآن لفظ المثل بعد كاف التشبيه مألوف بأنه يراد به تشبيه الحالة بالحالة.

والكلب- مع ما عرف عنه من أمانة وإخلاص وذكاء- هو من أخبث الحيوانات، وأوضعها قدرًا، وأخسِّها نفسًا، وأشدها شرهًا وحرصًا. ومن شدة حرصه وشرهه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض، يتشمَّم، ويستروح حرصًا وشرهًا، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزائه، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه؛ ليعضه من فرط نهمته، وهو من أمهن الحيوانات، وأحملها للهوان، وأرضاها بالدنايا. والجيفُ القذرة المُرْوِحَة أحبُّ إليه من اللحم الطري، وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب، لم يدع كلبًا واحدًا يتناول منها شيئًا إلا هرَّ عليه وقهره، لحرصه وبخله وشرهه. ومن أبرز صفاته الذميمة، التي لا تفارقه إنكاره الضيف، واللَّهَث على أيِّ حال.

وفي لسان العرب:” اللَّهَث واللَّهاث واللَّهَثان، بفتح اللام المشددة فيها، واللُّهَاث، بالضم: حرُّ العطش في الجوف. وقال الجوهري: اللَّهثان، بالتحريك: العطش، وبالتسكين: العطشان. وقال: الجوهري: لهث الكلب، بالفتح، يلهث لَهَثًا ولََُهاثًا، بالضم، إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش؛ وكذلك الرجل إذا أعيا .. وفي التنزيل العزيز: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}؛ لأنك إذا حملت على الكلب، نبح وولَّى هاربًا، وإن تركته شدَّ عليك ونبح، فيتعب نفسه مقبلاً عليك ومدبرًا عنك، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان“.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير