وقال أبو محمد بن قتيبة:” كل شيء يلهث؛ فإنما يلهث من إعياء، أو عطش إلا الكلب، فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال الصحة وحال المرض والعطش، فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته. وقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال؛ كالكلب، إن طردته لهث، وإن تركته على حاله لهث“.
وفي تشبيه ذلك الضال في حال لهفه على الدنيا بالكلب في حال لهثه، سر بديع؛ وهو أن الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته، واتباعه هواه؛ إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديد اللهف عليها، ولهفُه نظير لهث الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه؛ فإنه في الكلاب طبع لا تقدر على نفض الهواء المتسخن، وجلب الهواء البارد بسهولة، لضعف قلبها وانقطاع فؤادها، بخلاف سائر الحيوانات، فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد، ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء.
وفي الدر المنثور للسيوطي:” أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج، قال: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له؛ إنما فؤاده منقطع، كان ضالاًّ قبل وبعد“.
قال ابن قيِّم الجوزيَّة:” مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر، وترك اللهث؛ وهكذا الذي انسلخ من آيات الله، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا، وترك اللهف عليها. فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عنها، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء، فالكلب من أقل الحيوانات صبرًا عن الماء، وإذا عطش أكل الثرى من العطش، وإن كان فيه صبر على الجوع. وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثًا يلهث قائمًا وقاعدًا وماشيًا وواقفًا؛ وذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث؛ فهكذا مشبهه، شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهف، فإن حملت عليه الموعظة والنصيحة فهو يلهف، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف“.
وقال ابن عاشور:” وهذا التمثيل من مبتكرات القرآن؛ فإن اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جراء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه، وإن لم يكن لاضطراب باطنه، سبب آت من غيره“.
والجملتان الشرطيتان: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} تفسير لما أبهم في المثل، وتفصيل لما أجمل فيه، وتوضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه، على منهاج قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، إثر قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ}. وقيل: هما في موضع الحال من الكلب، بناء على خروجهما من حقيقة الشرط، وتحولهما إلى معنى التسوية، حسب تحول الاستفهامين المتناقضين إليه في مثل قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}؛ كأنه قيل: لاهثًا في الحالتين.
وأيًّا ما كان، فالأظهر أنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما اعتراه- بعد الانسلاخ- من سوء الحال، واضطرام القلب، ودوام القلق والاضطراب، وعدم الاستراحة بحال من الأحوال، بالهيئة المنتزعة مما ذكر من حال الكلب.
والخطاب في {تَحْمِلْ عَلَيْهِ} و {تَتْرُكْهُ} لمخاطب غير معيّن، فيشمل كل أحد ممن له حظ من الخطاب، فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله. والمعنى: إن يحمل عليه حامل، أو يتركه تارك .. و {تَحْمِلْ عَلَيْهِ} من الحملة, لا من الحمل، وهي المطاردة والهجوم.
وفي تاج العروس:” حمل عليه حملة منكرة “. وفي الصحاح:” حمل عليه في الحرب حملة. قال أبو زيد: يقال: حملت على بني فلان، إذا أرَّشْت بينهم“. أي: حملت بعضهم على بعض وحرَّشت. والتأريش والتحريش: الإفساد.
وقال مجاهد:” إن تحمل عليه، بدابتك أو رجلك يلهث، أو تتركه يلهث؛ وكذلك من يقرأ الكتاب، ولا يعمل بما فيه“. وقال غير مجاهد:” هذا شر تمثيل في أنه قد غلب عليه هواه؛ حتى صار لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، بكلب لاهث أبدًا، حمل عليه أو لم يحمل عليه، هو لا يملك ترك اللهثان“. وقيل:” السبب في أن الكلب يلهث دائمًا، أن جلده أملسَ، لا توجد فيه مسامات كافية“.
وقيل:” شبهت حال هذا الكافر الضال بحال الكلب اللاهث؛ لأن الكلب لا يطيعك في ترك اللهث على حال؛ وكذلك الكافر لا يجيبك إلى الإيمان في رفق، ولا عنف“.
وقد ورد هذا التشبيه على لسان الشاعر العباسي إسماعيل بن إبراهيم الحمْدَويِّ؛ إذ قال في هجاء أحدهم:
¥