تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الأول منهما: (من) التي تشمل -بعمومها- كل حاكمٍ بغير ما أنزل الله، فلا تقتصر على القاضي أو ولي الأمر الأكبر أو نائبه فقط؛ بل يدخل في هذا العموم كلُّ أحدٍ حكم بغير ما أنزل الله حتى الأب بين أولاده. لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكل من حكم بين اثنين فهو قاض سواء كان صاحب حرب أو متولي ديوان أو منتصبا للاحتساب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط فإن الصحابة كانوا يعدونه من الحكام) مجموع الفتاوى 18/ 170 , فكل من انتصب للقضاء بين الناس فهو حاكم ولا يشترط أن يكون في دار قضاء، فتأمل هذا المعني جيدا.

لذلك هذه الآيات تعم الإمام الأكبر، وتعم القاضي، والمحتسب، والمعلم، والعامل، والزوجة… وهكذا، وأيضاً هي تعم جميع أحكام الله تعالى، فكل حكم أنزله الله تعالى في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الفرائض والواجبات أو الحدود .. ؛ مما علم في الدين بالضرورة، أو ما ثبت من الشرع، وبان بياناً واضحاً لا إشكال فيه ولا شبهة، صغيراً كان أو كبيراً داخل في هذه الآية. فأكل الربا، و الزنا، و شرب الخمر، ووطأ الحائض حال حيضها. لذلك لما فهم السلف رضي الله عنهم ذلك على هذا الوجه جعلوا الكفر في الآية كفر دون كفر, كما أنهم لا يمكن بحال من الأحوال أن يستدلوا بهذه الآية على تكفير حكام المسلمين الكفر الأكبر بدون تفصيل؛ لأنهم لو فعلوا ذلك للزمهم أن يكفروا كل صاحب كبيرة، حيث إن من زنا فقد حكم بغير ما أنزل الله، ومن شرب الخمر متعمداً فقد حكم بغير ما أنزل الله …وهكذا. ولذلك فالأصل في الآية هو كفر دون كفر إلا أن هناك صورة تلحق صاحبها بالكفر الأكبر؛ ما إذا حكم الشخص بغير ما أنزل الله مستحلاً لذلك أو جاحداً به أو مكذباً له أو معانداً أو شاكاً أو غير ذلك من أسباب الكفر, وتحققت فيه شروط التكفير، وانتفت عنه موانعه.

ولسنا نقول هذا تهويناً من شأن الحكم بما أنزل الله, بل نحن نعلم يقيناً أن الحاكمين والمحكومين والمتحاكمين إلى القانون اللعين الذي هو بئس القرين قد أتوا شيئاً إداً؛ تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا, وأن هذا الفعل أشد عند الله من القتل والزنى والسرقة وشرب الخمر والربا وجميع الموبقات والمهلكات عدا الشرك بالله. ونحن لا نكتب ما نكتب إلا ردّاً لغلو الغالين، وتكفير المكفرين؛ الذين فتحوا الباب مشرعاً –بأفعالهم وأقوالهم – لكل أعداء الدين ومناوئيه؛ ليصفوا الإسلام بالتطرف، والمسلمين بالإرهاب .. من غير تمييز، وبلا تفصيل .. , فكانوا – بسوء صنيعهم – سداً منيعاً في وجه الدعوة الحقة للإسلام الحق، وسبباً كبيراً للضغط على المسلمين واستنزاف مقدراتهم، وشل قواهم, فالله يصلحهم، ويسدد دربهم.

فلا يهولنك أخي المسلم ما تسمعه من إطلاق لفظ مرجئ على من قال ذلك؛ فهو قول السلف قاطبة, وقد ذكر العلامة أبو الفضل السكسكي الحنبلي رحمه الله تعالى:"أن طائفة المنصورية – وهم مبتدعة ضلال – نبزوا أهل السنة بالإرجاء، لكونهم لا يكفرون تارك الصلاة إذا لم يجحدها!! زاعمين أن هذا يؤدي إلى أن الإيمان عندهم قول بلا عمل". (البرهان في عقائد أهل الإيمان ص69)

والثاني من العمومين: أن (ما) التي تشمل – بعمومها أيضاً- كل حكمٍ لله تعالى، فلا تقتصر فقط على الأمور القضائية ولا الخصومات.

فإن نظرتَ لهذا التقرير المأخوذ من عمومِيْ الآية علمتَ أن هذا يشمل كلّ عاصٍ لله تعالى بأيّ معصيةٍ دقّت أو جلّت, استمر عليها طيلة حياته أو لم يستمر, جعلها مبدأ له طيلة حياته (مع اعترافه بحرمة ما يفعله) أو لم يجعلها؛ فالزاني –مثلاً- حقيقة أمره أنه قد حكّم هواه بدلاً من أن ُيحكِّم ما أنزل الله في شأن نفسه، وكذلك الحالق لحيته والجائر بين أولاده والكاذب متعمدا وشارب الخمر .. فإنهم قد حكّموا الهوى بدلاً من تحكيم شرع الله تعالى في شأن اللحية والعدل في التعامل مع الأولاد واجتناب الزنا والخمر والكذب.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير