تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ففيه أوَّلاً تقليد محض لأحدِ علماء المسلمين في أمرٍ غيبي، وهو أن الجبال تسَبِّح رَّبها، وأنها مشفقة من تفتُّتها يوم البعث عالمةً بذلك؛ فمثل هذا لو صح لن يقنع به المستمع إلا ببرهان شرعي صحيح الدلالة والثبوت، لا بقول عالم بعينه؛ لأن هذه الدعوى لا تصح إلا بخبر معصوم صحيح صريح، وليس لهذا الأمر الغيبيِّ أيُّ مجالٍ في ظُنونٍ من استنباط بعيد، بل نعلم أن كل شيئ يسبح بحمد ربه، وأن السموات والأرض عندما قال لهما ربهما سبحانه وتعالى: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (11) سورة فصلت، وأن الأيدي والأرجل تشهد يوم القيامة، وأن السموات والأرض أشفقتا من حمل الأمانة .. ولا نعلم حقيقة ذلك؛ وإنما عندنا الإيمان بكلام الله على مراد الله، وأن التسبيح كائن حقيقة من الجمادات والعجماوات بالكيفية التي لا يعلمها إلا ربنا، وكفى قول الله سبحانه: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (44) سورة الإسراء .. وأما أن الجبال عالمة بأنها ستكون كالعهن، وأنها عالمة بأنها ستندكُّ يوم البعث فأمر لا نثبته ولا ننفيه إلا بنص شرعي صحيح صريح؛ فإن وُجِدَ فذلك هو الحق المتَّبع، وإن لم يوجد فلا يجوز الاحتجاج بظنون عالم من العلماء مثلاً، وأريد بظنون الاستنباط البعيدة أن يقول قائلٌ مثلاً: (سخط الهدهد من عبادة الشمس دلالة على اعترافه بالله سبحانه)؛ فهذا حقٌّ، ولكن ليس فيه دلالة على أن الهدهد يعلم أنه سيبعث .. وقل مثل ذلك عن إشفاق السموات والأرض من حمل الأمانة، وشهادة الأعضاء التي لا تكون إلا يوم القيامة وليس فيها دلالة على علم الجوارح الجماد أنها ستبعث.

ورأيت ثانية تكلُّفاً غير مشروع في إحصاء عدد التسبيح في العام بواسطة الآلة الكاتبة!! .. ما هذا، وهل جاء دين الله بمثل هذا التكلف، وما نتيجته؟! .. وإنما يُقْبل الإحصاء من خبر الشرع المطهَّر أو أمره كخبره بأن ليلة القدر خير من ألف شهر .. وما كانت السِّبحة الألفية بدعة، والعد بالحصى بدعة إلا لأن الإحصاء غير مطلوب، وقد أنكر ابن مسعود رضي الله عنه ذلك، ووعظهم ب {سبِّحوا ولن تُحْصوا}، وردَّهم إلى المشروع من العدِّ بالأصابع المستنطقات، وليس ذلك من أجل إحصاء فضائل نجزم بها؛ فكم من مرةٍ نُشْفِق ونخاف من ردِّ أعمالنا وعدم قبولها؛ وإنما الغرض تأدية العدد الذي أَمَرنا به الشرع مثل ثلاث وثلاثين تسبيحة، ومثلها تحميدة، ومثلها تكبيرة، ونختم بالتهليل فتكون مئةً .. ومثلُ إحصاءِ ما ندبنا الله سبحانه وتعالى إليه من ذكرٍ يطرد الشيطان، وهو (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيئ قدير) مئة مرة في الصباح، ومئة مرة في المساء؛ فتَعْقِد عَشْراً بيمينك، ثم تعقد الخُنصر في اليسرى عن عشر، ثم البنصر مثل ذلك، ثم الأوسط مثل ذلك، ثم السبَّابة مثل ذلك، ثم الإبهام مثل ذلك؛ فتنعقد أصابع اليسرى على خمسين، ويبقى خمسون تُحصيها بعدَ عدِّ أصابع اليمنى عشر تهليلات فترفع الخنصر من اليسرى، ثم البنصر ... إلخ .. والأصابع أولى؛ لأنها مستنطقات، والغرض اليقين أو الرجحان بحصول العدد الذي نُدِبنا إليه شرعاً.

وتأذَّيت ثالثة من نغمة التَّمعلُم والوثوق العارِم بأن عبادة التسبيح مهملة لم يبحثها على وجهها إلا فلان المعاصر .. مع أنها الشُّغْل الشاغل لعلماء اللغة، وعلماء الورع غير البدعيين، وعلماء التصوف.

وتأذيت رابعة من التَّمعلم في تحقيق أصل اشتقاق التسبيح من الإبعاد على سبيل الجزم؛ وهذا حرَّكني إلى تحقيق هذه المسألة، ولا يتَّسع المقام إلا لنبذة موجزة، وقبل ذلك أُبَيِّن أن التسبيح ليس هو العبادة العجيبة، بل هو خَرَزَة رابعة في سِمْط التحميد والتهليل والتكبير، وهو من فضائل الأعمال، ومكفِّرات الذنوب، ولكن لا شيئ أعجب من الركن الثاني العملي بعد الشهادتين وهو الصلاة، ثم النوافل منها كالتهجد؛ فهي أم العجائب، وهي التي تشمل التسبيح وغيره، وهي على الوجوب، ومن نوافلها ما هو على التأكيد، ومن رغائبها ما هو أفضل من غيره على الإطلاق؛ وإنما وَجَدَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الراحة في الصلاة، وكم من الدراويش معهم سِبْحات ألفية يعدون بها ويُحرِّكون رؤوسهم وهم -لو كانوا غير بدعيين، فما بالك بكونهم بدعيين- من أكسل الناس في التهجد والسنن الرواتب .. إن المبالغات والتكلف ليست من دين الله في

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير