وجاء في القرآن الكريم الكريم إضافة التسبيح إلى الله سبحانه لا إلى اسمه كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (سورة الفتح 8 - 9)؛ فهذا نفي لِما لا يجوز في حقِّه من الصفات أصلاً كالنسيان .. وجاء التسبيح باسمه سبحانه وتعالى في مثل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) سورة الأعلى .. فهذا تنزيه الاسم الثابت لله من النقص، ومَن لم يفعل فقد ألحد في أسماء الله تعالى بمقتضى قوله تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} (180) سورة الأعراف؛ فمن شبَّهها بصفات مخلوق، أو قدَّرها وحدَّدها، أو عطَّلها فقد ألحد فيها، وهكذا من نقص منها كقول المعتزلة عن علم الله: (لا يعلم الله الجزئيات) تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .. والأكثر في الشرع اقتران الحمد بالتسبيح لله سبحانه بإطلاق .. وأما (سبحان) فيأتي الكلام عنها إن شاء الله .. وزادت السنة المطهرة (سُبُّوحٌ) بضم السين والباء المشدَّدة المضمومة، ويأتي الكلام عنها إن شاء الله.
وأما اشتقاق التسبيح فاختار جمهور اللغويين أنه مأخوذ من التَّبْعيد، وأصَّل ذلك الإمامُ الراغب الأصفهاني رحمه الله بكلام لا يصح لغةً ولا شرعاً، فقال: السبح المرُّ السريع في الماء أو في الهواء .. ثم قال: (والتسبيح تنزيه الله تعالى .. وأصله المر السريع في عبادة الله) (2).
وأما الإمام ابن فارس رحمه الله (وهو قبل الراغب زمناً) فقد جعل للتسبيح أصلين هما: العبادة، والعوم في الماء (3)، وهذه الثنائية صحيحة لأمرٍ سأذكره إن شاء الله، وإنما الخطأ في ذكره (العوم).
قال أبو عبدالرحمن: وبعد هذه الجولة أحقق لكم المسألة بعدد من الوقفات:
الوقفة الأولى: المحقَّق عندي بيقين كالشمس أن التسبيح والتقديس كلمات شرعية توقيفيَّة عند أهل الأديان؛ فنَقلتْ لغةُ العرب معانيهما من اللغة التوقيفية؛ فأما التقديس فإذا تصفحت معانيها وجدت أصلها شرعياً توقيفياً، ثم وسَّع العرب المادة بالمجاز (4)، وقد لاب بعض هذا ببال الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى فقال: (وأظنه من الكلام الشرعي الإسلامي) (5)، ولو قال: (من كلام شرائع الله التوقيفية)؛ لكان أصوب؛ لأنه ليس للشرع الإسلامي معانٍ ليستْ مأخوذة من لغة العرب؛ فهي: إما لغة العرب نفسها مثل قام وعلم، وإما اصطلاح شرعي من معاني لغة العرب كالحج لخصوص قصدٍ ذي هيئات مُعَيَّنة .. وأما التسبيح فتجد عند النصارى السبح صلوات للقديسين والعذراء، وعيد السبح أحد الشعانين (6)، وصلاة السَّحَر (7)، وتصدق أيضاً على تراتيلهم في الكنيسة.
والوقفة الثانية: أن أصل سبح في لغة العرب مرور الإنسان على الماء ببطنه أو ظهره، أو على جنبه، وهو مشتق من معاني السبح التوقيفية في الشرائع بمعنى التنزيه؛ لأن الإنسان في عرف العقلاء لا يرتاض بالسباحة إلا في ماء نظيف نزيه.
والوقفة الثالثة: لا تصحُّ دعوى أن السبح مَرٌّ سريع على الماء؛ وإنما هو لمطلقِ المرور ومنهم غير المسرع لعدم القدرة، أو لعدم القصد مع وجود القدرة.
والوقفة الرابعة: جاء معنى السرعة مثل (فرس سابح) -وفي السرعة معنى البعد- على التشبيه بهيئة السابح في الهواء لا على التشبيه بسرعته؛ فهو مشبَّه بمن يسبح في الهواء، والسبح في الهواء مشبَّه بالسبح في الماء؛ فكأن الفرس سابح في الهواء لا يلمس الأرض، بل أرضه الفضاء .. كما أن السابح تكون أرضه الماء؛ وإنما جاء معنى السرعة لأن هذه الحال مرصودة من أقصى سرعة للفرس.
والوقفة الخامسة: السبح في الهواء على التشبيه بالسبح في الماء، وهو لا يقتضي السرعة، وقد حقَّقْتُ في كتابي (من أحكام الديانة) الطبعة الأولى الضخمة أن أول سورة النازعات كلَّه عن الملائكة الكرام حسب مدى سرعتهم؛ فالسابحات من الملائكة عليهم السلام هم الدرجة الثالثة في السرعة، وفوقهم السابقات، وفوقهم المدبرات كجبريل عليه السلام ومَن أهلكوا قوم لوط بأمر الله لهم.
والوقفة السادسة: اتَّضح أن البعد معنى مجازي في سَبَحَ لا أصلٌ، ثم إنه لا يصح وصف العبادة بالمرِّ السريع إلا ما جاء استثناءً بنص شرعي، والأصل في العبادات الأناة، والأجْرُ على قدر النَّصَب (التعب).
¥