تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والوقفة السابعة: لا نستطيع تحديد أصل الاشتقاق للتسبيح العِبادي ما دمنا لا نعرف أصل اشتقاق معاني المادة التي جاءت إلى لغة العرب من كلمة شرعية توقيفية متوارثة، ولكن بالتَّتَبُع لمعنى التسبيح والتقديس في الشرع وجدنا التسبيحَ أعمَّ؛ لكونه لنفي كل نقصٍ وعيب بما فيه ما يُخالف الطُّهر .. وهو أخص من جهة اقترانه في مواضع كثيرة بالتعجب .. والتقديس لخصوص تنزيه، وهو تنزيهه سبحاته عما يخالف الطهارة؛ ولهذا لما قال الصحابة رضوان الله عليهم: (إن الرجل يحب أن يكون ثوبه نظيفاً): قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال)؛ فدخلت النظافة في الجمال، وهي من عناصره في علم الجمال؛ لأن الدنس والقذارة قبح .. وسبحات ربنا جل جلال أنوار وجهه الكريم، وذلك غاية الطهر؛ لأن النور نصوع؛ ولهذا اشتُقَّت بالجذر الثُّنائي -الواو والضاد- الوضاءةُ وفِعْلها وضُؤَ من الوضوء؛ لأنه نور وضياء يظهر أثره دنياً في العُبَّاد، وتتجلَّى آثار السجود ضياءً يوم القيامة بالنصوص الشرعية الصحيحة؛ فأصبحت (وَضُؤَ) بمعنى (أضاء) بالجِذْر الثنائي، ومن معاني خصوص التطهير نفي الولد والوالد والزوجة عنه سبحانه، وتطهيره سبحانه من دنس كفرة أهل الحلول كقول ملحدهم:

وكلُّ كلامٍ في الوجود كلامُهُ *سواء علينا نَثْرُه ونظامُهُ

فجعلوا مثلَ نبحِ الكلاب ونهيق الحمير كلامَه تقدَّس ربي وجلَّ وعلا، وقبح الله أهل الحلول والاتحاد وخيَّبهم.

والوقفة الثامنة: لا صحة لتقييد الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى السبح بالعَوْم في الماء، بل هو لِمُرور العاقل على سطح الماء على ظهره أو بطنه أو جنبه، وأما العوم لما يطفو على السطح فهو لِمَنْ لا يعقل، وهذا عليه جمهور اللغويين والمفسرين المتأخرين لا سيما تفسير البيضاوي وحواشيه وحواشي حواشيه؛ ولهذا خطَّأوا الفيروزآبادي رحمهم الله تعالى في توحيده بين سبح وعام؛ ولهذا أيضاً جعل العربُ سَيْرَ الإبل التي لا تعقل عَوْماً، والعُوْمة -بضم العين المهملة وسكون الواو- دويبة لا تعقل تسبح في الماء .. وهذا هو الصحيح في الاشتقاق بجِذْرَي العين المهملة والميم في عَمِيَ وعمهِ وعَام، ووُفِّقَتْ عاميةُ نجد في وصف من لا يَفقه من الناس بكلمة (عُوْمة)؛ فهو يخلط ويملط على غير هدى.

والوقفة التاسعة: القُدُّوس بضم القاف والدال المهملة المضمومة المشدَّدة من أسماء الله الحسنى بيقين كما في سورة الحشر، وهي اسم لبلوغ الغاية في الطهر، والسُّبُّوح بالسين المهملة المشدَّدة المضمومة والباء الموحدة من تحت المشدَّدة المضمومة كذلك لبلوغ الغاية في النزاهة، وحديث (سُبُّوحٌ قُدُّوس رب الملائكة والروح) مشعر بذلك؛ لأن السبوح والقدوس صفة للرب سبحانه .. ومن ضبط حاء سبوح وسين قدوس بغير تنوين فقد أخطأ، بل هو بالتنوين، وهكذا من جعله منصوباً منوَّناً؛ لأنه في سياق وصفٍ لا إضافة .. ولم أجد اسماً عُبِّدَ للسبُّوح، ولم أجدها في الدعاء .. وأما حديث (سبوحٌ قدوسٌ) فهو اعترافٌ عقيدةً بذلك وإن جحده سبحانه الجاحدون؛ فلعلها من أسماء الله الحسنى التي نَدَّت عن بعض المحصين لأسمائه سبحانه؛ فإن الله سبحانه جعل الوعد بالجنة لمن أحصى تسعة وتسعين من أسماء الله الحسنى اختباراً لدرجات الراسخين في العلم .. وأما (سبحان الملك القدوس) فهي إقرار باللسان، ونحن إنما نسبِّح ربنا سبحانه بفعل ألسنتنا وقلوبنا باعترافٍ مُضْمرٍ أو مُظهرٍ باللسان، ولا فعلَ لنا في تنزيه الغنيِّ الحميد جل جلاله؛ فهو الذي يهب النزاهة لمن يشاء، ولا تملك المخلوقات إلا الاعتراف فقط.

والوقفة العاشرة: حكى جمهورٌ من اللغويين جوازَ فتح السين المشدَّدة هكذا (السَّبوح)، ولم يُورِدُوا دليلاً على ذلك، وإنَّما وجدوا الضم قليلاً على وزن (فُعُّول) بضم الفاء وتشديد العين المهملة المضمومة مُهملاً .. وبتتبعي ما ورد في الصيغتين وجدت الفتح يعني بلوغ الغاية في الفعل، ولهذا جاء لما هو آلةٌ مثل السَّفُّود والتَّنُّور والشَّبُّور للبوق الذي هو آلة غناء .. وأما الضم فلم يرد إلا للسبوح القدوس، فهو لصفات الفاعل سبحانه، ولم يرد على الضم (على التحقيق) غير سبوح وقدوح صفةً للرب سبحانه؛ فهو جلَّ جلاله المتميِّز بذلك الكمال في صفاته وأفعاله .. ولما استُعْمِلَتْ المبالغةُ في العرف الأدبي المتأخِّر عن لغة السليقة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير