الأولى: ما وقع من خلاف في مشروعية الفعل، فطالما أن أهل العلم اختلفوا فالواجب باتفاق المسلمين وإجماع أئمة الدين هو رد الخلاف للكتاب والسنة وبيان الحكم منهما إما بالنص أو الاستنباط، وقد نقلتم وفقكم الله عن العلامة الشوكاني قوله في المسألة ورضيتم به، ونفس هذا العلم الجبل ينقل نصاً ثميناً قيماً يأمر فيه بالرجوع إلى ما ذكر عند الاختلاف فآمل أن ترضوا به، قال رحمه الله في أول رسالته شرح الصدور ما نصه: "فاعلم أنه إذا وقع الخلاف بين المسلمين في أن هذا الشيء بدعة أو غير بدعة، أو مكروه أو غير مكروه، أو محرم أو غير محرم، أو غير ذلك، فقد اتفق المسلمون ـ سلفهم وخلفهم ـ من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا ـ وهو القرن الثالث عشر منذ البعثة المحمدية ـ أن الواجب عند الاختلاف في أي أمر من أمور الدين بين الأمة المجتهدين هو الرد إلى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الناطق بذلك الكتاب العزيز (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) ومعنى الرد إلى الله سبحانه الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الرد إلى سنة بعد وفاته. وهذا مما لا خلاف فيه بين جميع المسلمين".
إلى أن قال في كلام طويل:
"وبهذا يتقرر لك أن ليس لأحد من العلماء المختلفين، أو من التابعين لهم والمقتدين بهم أن يقول: الحق ما قاله فلان دون فلان، أو فلان أولى بالحق من فلان. بل الواجب عليه- إن كان ممن له فهم وعلم وتمييز- أن يرد ما اختلفوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان دليل الكتاب والسنة معه فهو على الحق وهو الأولى بالحق. ومن كان دليل الكتاب والسنة عليه لا له كان هو المخطئ، بل هو معذور، بل مأجور، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر) فناهيك بخطأ يؤجر عليه فاعله، ولكن هذا إنما هو للمجتهد نفسه، إذا أخطأ، ولكن لا يجوز لغيره أن يتبعه في خطئه، ولا يعذر كعذره، ولا يؤجر كأجره، بل واجب على من عداه من المكلفين أن يترك الاقتداء به في الخطأ ويرجع إلى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة. وإذا وقع الرد لما اختلف فيه أهل العلم إلى الكتاب والسنة كان من معه دليل الكتاب والسنة هو الذي أصاب الحق ووافقه، وإن كان واحدا، والذي لم يكن معه دليل الكتاب والسنة هو الذي لم يصب الحق، بل أخطأه، وإن كان عددا كثيرا، فليس لعالم ولا لمتعلم ولا لمن يفهم- وإن كان مقصرا- أن يقول: إن الحق بيد من يقتدي به من العلماء، إن كان دليل الكتاب والسنة بيد غيره. فإن ذلك جهل عظيم، وتعصب ذميم، وخروج من دائرة الإنصاف بالمرة، لأن الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يعرفون بالحق. وليس أحد من العلماء المجتهدين والأئمة المحققين بمعصوم، ومن لم يكن معصوما فإنه يجوز عليه الخطأ كما يجوز عليه الصواب، فيصيب تارة ويخطئ أخرى. ولا يتبين صوابه من خطئه إلا بالرجوع إلى دليل الكتاب والسنة، فإن وافقهما فهو مصيب، وإن خالفهما فهو مخطئ ولا خلاف في هذه الجملة بين جميع المسلمين أولهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم، كبيرهم وصغيرهم، وهذا يعرفه كل من له أدنى حظ من العلم، وأحقر نصيب من العرفان، ومن لم يفهم هذا ويعترف به فليتهم نفسه، ويعلم أنه قد جنى على نفسه بالخوض فيما ليس من شأنه، والدخول فيما لا تبلغ إليه قدرته، ولا ينفذ فيه فهمه. وعليه أن يمسك قلمه ولسانه، ويشتغل بطلب العلم، ويفرغ نفسه لطلب علوم الاجتهاد التي يتوصل بها إلى معرفة الكتاب والسنة وفهم معانيهما، والتمييز بين دلائلهما، ويجتهد في البحث في السنة وعلومها، حتى يتميز عنده صحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، وينظر في كلام الأئمة الكبار من سلف هذه الأمة وخلفها حتى يهتدي بكلامهم إلى الوصول إلى مطلوبه. فإنه إن لم يفعل هذا وقدم الاشتغال بما قدمنا، ندم على ما فرط منه قبل أن يتعلم هذه العلوم غاية الندم .. " إلى آخره.
أيها الشيخ الحبيب كانت تلك هي المسألة الأولى التي ينبغي تحريرها، وأما المسألة الثانية وهي فرعية هل حقاً الأمر على ما ذكر الباحث في الموسوعة الكويتية -القيمة النافعة بحق- من أن القول بجواز التوسل هو قول جماهير أهل العلم؟ وهل حقاً صح ما نقل عن بعض السلف والأئمة فيها أم الصحيح أنها أقوال ليس لها خطام أو زمام؟
لعل هذه مسألة أخرى توافق -أحسن الله إليك- على أهمية تحري الحق فيها طالما أن بعض أهل العلم -الإمام ابن تيمية مثلاً- ينقل فيها رأياً آخراً على ما نقل هنا.
وإذا كان الأمر كذلك فلنعد هنا للمسألة الأولى، طالما أن الخلاف في المسألة حاصل وبصرف النظر الآن عن تحقيق قول جمهور الأئمة والتابعين والصحابة رضوان الله عليهم جميعاً في المسألة.
فمع من من المختلفين -تُرى- الصواب؟
وأقترح أن يكون سبيل تحرير ذلك هو ما بُدء نقاشه -بعد أن فرغ من الاستدلال بالآية التي شرع الموضوع لأجلها- من نص حديث الإمام الترمذي وابن ما جة وغيرهما والذي يستدل به بعض أهل العلم على جواز التوسل بذات النبي صلى الله عليهم وسلم، ويخالفهم آخرون في صحة ذلك الاستدلال.
فإن تقرر أن ذلك النص المحال عليه عند الترمذي ليست فيه دلالة فلا بأس أن نناقش ما ورد من زيادات تتعلق به عند الطبراني أو غيره ربما كانت ثابتة أو فيها دلالة عند بعض أهل العلم.
فإن فرغنا من هذه فأقترح أن ننتقل إلى الأدلة الأخرى التي ترون قوة دلالتها على جواز التوسل بذات نبينا صلى الله عليه وسلم.
وبعدها يحسن تحرير قول الأئمة في المسألة.
فهل ترون هذا كلاماً منصفاً أحسن الله إليكم أم لا؟
إن كان الكلام مقبولاً فأرى أن تبدأوا بالتعليق على ما ذكر في الرد (22) وفيه الإحالة على ما يبين عدم وجود دلالة صحيحة في الحديث المذكور -والذي بدء النقاش فيه- على صحة العبادة المذكورة.
وإن كنتم ترون أن هذا الكلام ليس منصفاً أو عليه ملاحظات فأرحب بها وتسرني الإستفادة منكم ومن تعليقاتكم وملاحظاتكم وتعقيباتكم.
هذا والله أسأل أن يجعل الحق مبتغاي ومبتغاك، وأن يوفقني للصواب وإياك، مع رجائي بأن تسأل الله لي الهداية والسداد.
¥