وقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة" فيه دلالة واضحة على أن أعلى درجات الشعر الحكمة كما أن أعلى درجات البيان السحر. كما أن الحكمة الموجودة في القرآن وسنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حكمة بالغة غير ناقصة والحكمة الموجودة في الشعر حكمة ناقصة. أما كتاب الله سبحانه وتعالى فقد بلغ منزلة بهرت أساطين البلاغة من قريش وقصة الوليد بن المغيرة مشهورة عندما ذهب ليستمع إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم عاد وهو يقول "والله ما في قريش من رجل أعلم بالشعر أو رجزه أو قصيده مني، ولا والله ما يشبه الذي يقول محمد شيئاً من هذا الشعر أو ذلك الرجز والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه يحطم ما تحته فأنكر عليه أبو جهل وقال له لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، ففكر طويلا فقال هذا سحر يؤثر"
ومما يروى عن المأمون أنه قال لرجل عنده "بلغني أنك أُمِّيّ، وأنك لا تقيم الشِّعر، وأنك تَلحن في كلامك؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أمّا الَّلحن فربما سَبَقني لساني بالشيء منه، وأما الأمِّيَّة وكَسْر الشعر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أًمّياً وكان لا يُنشد الشعر؟ قال المأمون: سألتُك عن ثلاثة عيوب فيك فزدْتني عَيباً رابعاً، وهو الجهل، ياجاهل، إنّ ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة، وفيك وفي أمثالك نَقيصة، وإنما مُنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لنَفْي الظِّنَّة عنه، لا لِعَيب في الشِّعر والكتاب، وقد قال تبارك وتعالى: " وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذَا لارْتَابَ اْلمُبْطِلُونَ ".
والذي يفهم من قوله تعالى "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" أي ماينبغي لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- النقص وإنما ينبغي له الكمال ذلك أن الكمال في الوحي بشقيه من قرآن وسنة والنقص في الشعر في أعلى درجات حكمته وصدقه. ومما لايخفى على أهل اللغة والأدب أن الشعر يدخله الباطل بل إن غالبه كذلك ويدخله التناقض والاضطراب والكذب وتحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق ولا أجد أبلغ من قول دعبل في وصف الشاعر عندما قال "من فضل الله على الشاعر أَنَّهُ ما مِن أَحدٍ يكذبُ إلا اجتواهُ الناسُ إِلا الشاعرُ فإنه كلما إزداد كذبهُ كلما ازداد المديحُ له ولا يكتفى له بذلك حتى يقال أحسنت والله فما يشهد له بشهادة زور إلا وكان معها يَمين بالله" ويشهد الله لو كان هذا الموقف مع غير القرآن والسنة لانتصرت للشعر ولكني لا أستطيع الانتصار لقول مخلوق ضعيف معظمه كذب وتزويرعلى قول خالق قوله حق مبين لايأيتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ومعلوم عند أهل اللغة أنه مامن قصيدة في دواويين الشعر القديم والحديث تخلو من عيب نحوي أو صرفي أو اضطراب واختلاف أو معنى مبتذل وصدق الله القائل " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" (النساء 82). وإذا كان الشعر الجاهلي لم يخل من ذلك فكيف يخلو منه ماهو دونه في اللغة والبيان فهذا طرفة في قوله:
قد رُفِعَ الفخُّ فماذا تَحذري
قد حذف النونَ. وهذا الراعي النميري في قوله:
تأبى قُضاعةُ أَن تَعْرِفْ لكمْ نَسبا * وابنا نزارٍ وأنتم بيضةُ البَلَدِ
فسَكَّن تَعْرِف ضرورةً. وهذا شاعرُ الجاهلية أمرؤ القيس في قوله:
لها متنتان خظاتا كما*أكب على ساعديه النمر
حذف النون. وقول زياد الأعجم:
عجبتُ والدهرٌ كثيرٌ عَجَبُهْ * مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّني لَم أَضْرِبُهْ
فرفع أَضربُه. وقول الفرزدق:
وعَضُّ زمانٍ يابن مروانَ لم يَدَعْ *مِن المالِ إِلاَّ مِسحتاً أَو مُجلفُ
فضم مجلفا. وهذه أمثلة قليلة جداً ذكرناها لبيان نقصان الشعر وعدم كماله عند أساطينه وسادته، ولذلك لم يرد الله لرسوله –صلى الله عليه وسلم- إلا الكمال فعصمه من الشعر لنفي الظنة ولتطهير فمه وقلبه من قول ناقص وبيان غير مكتمل فوهبه الوحي الكامل وجنبه قول الشعر لما ذكرناه وليبقى مثال الفصاحة والبيان إلى قيام الساعة، فلو كان شاعراً لوقع فيما وقع فيه الشعراء العظام من لحن وزلل واضطرار وإسناد وإقواء وإكفاء وإجازة وإيطاء وتفاوتات البيوت ولذلك أصبح –صلى الله عليه وسلم- مستغنيا بالكامل عن الناقص.
¥