كيف تنكرون ظهور نور الحق في الأكوان وتبعدون عن حضرة الشهود والعيان، وقد كنتم أمواتا بالغفلة وغم الحجاب، فأحياكم باليقظة والإياب، ثم يميتكم بالفناء عن شهود ماسواه، ثم يحييكم بالرجوع إلى شهود أثره بالله، ثم إليه ترجعون في كل شيء، لشهود نوره في كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وعند كل شيء، كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان.
وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تعالى يا عبدي إنما منحتك صفاتي لتعرفني بها فإن أدعيتها لنفسك سلبتك الولاية ولم أسلبك صفاتي، يا عبدي أنت صفتي وأنا صفتك فارجع إلي أرجع إليك، ياعبدي فيك للعلوم باب مفتاحه أنا، وفيك للجهل باب مفتاحه أنت فاقصد أي البابين شئت … الخ.
ويقول: اعلم أن الروح القائمة بهذا الآدمي، هي قطعة من الروح الأعظم، التي هي المعاني القائمة بالأواني، وهي آدم الأكبر، والأب الأقدم، وفي ذلك يقول ابن الفارض:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة = فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
ويقول:وقال بعض العارفين: الحق تعالى منزه عن الأين والجهة والكيف والمادة والصورة ومع ذلك لا يخلو منه أين ولا مكان ولا كم ولا كيف ولا جسم ولا جوهر ولا عرض لأنه للطفة سار في كل شيء، ولنوريته ظاهر في كل شيء ولإطلاقه وإحاطته متكيف بكل كيف غير متقيد بذلك فمن لم يعرف هذا ولم يذقه ولم يشهده فهو أعمى البصيرة، محروم من مشاهدة الحق تعالى
وهذه الإشارات لا يفهمها إلا أهل الأذواق من أهل المعاني تذوق أسرارهم وتفهم إشاراتهم وإلا فحسبك أن تعتقد كمال التنزيه وبطلان التشبيه وتمسك بقوله تعالى:] ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [([47]) وسلم للرجال في كل حال.
وأقول: الأولى أن يقول: وسلم للمحال بكل حال، ومن هم هؤلاء الرجال؟ وما الضابط الذي يضبط لنا من نسلم له ممن لا نسلم له؟ أهو السير عريانا في الشوارع أمثال سيدهم إبراهيم العريان؟ ([48]) أم إتيان الحمارة على قارعة الطريق بمرأى الناس أمثال سيدهم علي وحيش؟ ([49])
ويقول:اعلم أن الأماكن والجهات وكل ماظهر من الكائنات قائمة بأنوار الصفات ممحوة بأحدية الذات كان الله محق الآثار بإجلاء الأنوار وامتحت الأنوار بأحدية الأسرار وانفرد بالوجود الواحد القهار ولله در القائل:
مذ عرفت الإله لم أر غيرا وكذا الغير عندنا ممنوع
فمن كحل عين بصيرته بإثمد الخاص لم يقع بصره إلا على الحق ولا يعرف إلا إياه، ورأى الأشياء كلها قائمة بالله، بل لا وجود لها مع الله ومن فتح الله سمع قلبه، لم يسمع إلا من الحق ولا يسمع إلا به كما قال القائل:
أنا بالله أنطق * ومن الله أسمع
وقال الجنيد t : لي أربعين سنة أناجي الحق، والناس يرون أني أناجي الخلق فالخلق محذوفون عند أهل العلم بالتحقيق، مثبتون عند أهل الجهل والتفريق يقولون:] لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية [([50]) مع أنه يكلمهم في كل وقت وساعة.
وينقل عن ابن عربي قوله:من رأي الخلق لا فعل لهم فقد فاز ومن رآهم لا صورة لهم فقد جاز ومن رآهم بين العدم فقد وصل ([51]) وانظر أيضا ([52]) وقال: قال بعض العارفين: لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع فإنه لا غير معه حتى أشهده. ([53])
ويقول في مقامات التوحيد التي ذكرها تحت قوله تعالى] وإلهكم إله واحد [([54]):
واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على قدرته درجات، الأولى توحيد العامة وهو الذي يعصم النفس والمال وينجو به من الخلود في النار وهو نفي الشركاء والأنداد والصاحبة والأولاد والأشباه والأضداد، الثانية توحيد الخاصة وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ويشاهد ذلك بطريق الكشف لا بطريق الاستدلال فإن ذلك حاصل لكل مؤمن وإنما مقام الخاصة يقين في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله والتوكل عليه وحده فلا يرجو إلا الله ولا يخاف أحدا سواه إذ ليس يرى فاعلا إلا الله فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب الدرجة الثالثة ألا يرى في الوجود إلا الله ولا يشهد معه سواه، فيغيب عن النظر إلى الأكوان في شهود المكون وهذا هو مقام الفناء فإن رد إلى شهود الأثر بالله سمى مقام البقاء. ([55])
¥