ومِمَّا سبق يُمكن القول بأن السجدة الثانية في سورة الحج ثبتت عن عدد من الصحابة - كما ذكر ابن عبدالبر رحمه الله - وغيره، وكان العمل على السجود في الحج سجدتين كما يفهم ذلك من قول أبي إسحاق السبيعي التابعي الكبير: أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين.
فإذا كان الأمر كذلك فلا مناص من القول بثبوت تلك السجدة خاصة وأنه لم يُعرف لمن قال بثبوتها وسجدها من الصحابة مخالف في عصرهم فكان إجماعاً كما قال ابن قدامة في المغني ([15]).
وأمَّا الأحاديث التي جاءت بإثبات هذه السجدة فكلها لايخلو من مقال، وقد ضعفها العلماء كحديث عقبة بن عامر السابق، وحديث عمر بن العاص - رحمه الله ([16]) -.
وهذه الأحاديث - وإن كان فيها مقال - إلاَّ أن بعضها يعضد بعضاً ويقويه، ولذلك فقد ذكر ابن كثير هذه الأحاديث، وذكر معها أثر عمر السابق ثُمَّ قال: (فهذه شواهد يشد بعضها بعضاً) ([17]) ا هـ.
وقد قال الإمام أبو بكر بن العربي ([18]) - وهو من أئمة المالكية ومحققيها - بثبوت هذه السجدة، حيث ذكر أقوال العلماء فيها، ثُمَّ قال: (وإني لأسجد بها وأراها كذلك) ثُمَّ ذكر أنه رجح القول بثبوتها لثبوت ذلك عن عمر، وابن عمر، وذكر الأثرين الذين أوردهما مالك في موطأه عنهما، ثُمَّ قال بعد ذكر أثر ابن عمر: (وكان ابن عمر أكثر الخلق بالنبي صلى الله عليه وسلم قدوة) ([19]).
(فالقول الراجح، المعوّل عليه أن في سورة الحج سجدتين، والله تعالى أعلم) ([20]).
ثانياً: سجدة {ص~}:
قال ابن عبدالبر: (واختلفوا في سجدة {ص~}: فذهب مالكٌ والثوري وأبو حنيفة إلى أن فيها سجوداً.
وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعثمان، وجماعة من التابعين، وبه قال إسحاق، وأحمد، وأبو ثور.
واخْتُلف في ذلك عن ابن عباس.
وذهب الشافعي إلى أن لا سجود في {ص}، وهو قولُ ابن مسعود وعلقمة.
وذكر عبدالرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: قال عبد الله بن مسعود: إنَّما هي توبة نبي ذكرت. وكان لايسجد فيها ([21]).
وقال ابن عباس: ليست سجدة {ص} من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها ([22])) ([23]) ا هـ.
هذا ما ذكره ابن عبدالبر من خلاف في سجدة {ص}، والذي يترجح في هذه المسألة، وهو مِمَّا لاشك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في هذا الموضع كما صحت بذلك الأحاديث، وصحت كذلك آثار عن الصحابة وغيرهم أنهم كانوا يسجدون عند هذه الآية من سورة {ص} { ... وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24].
فعن ابن عباس رضي الله عنهما - قال: {(ص) ليس من عزائم السجود، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها} ([24]).
وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في {ص}، وقال: {سجدها داود توبة، ونسجدها شكراً} ([25]).
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر {ص}، فلما بلغ السجدة؛ نزل فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر؛ قرأها، فلما بلغ السجدة، تشزَّن ([26]) الناس للسجود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنَّما هي توبة نبي، ولكن رأيتكم تشزّنتم للسجود}، فنزل فسجد وسجدوا} ([27]).
وعن أبي رافع قال: صليت مع عمر الصبح فقرأ بـ {ص} فسجد فيها ([28]).
وقال ابن عمر - رضي الله عنه وعن أبيه -: في {ص%} سجدة ([29]).
وكان ابن عباس يسجد في {ص} ويتلو هذه الآية {أُولَـ! ــ%ـئِكَ ا؟ لَّذِينَ هَدَى ا؟ للَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ا؟ قْتَدِهْ)} ([30]) [الأنعام: 90].
وثبت عن الحسن ومسروق أنهما كانا يسجدان في {ص} ([31]).
ولكن هل هذه سجدة تلاوة، أو أنها سجدة شكر، وتفعل اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؟.
قال أبو بكر الجصاص الحنفي: (ولما سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها كما سجد في غيرها من مواضع السجود، دلّ على أنه لا فرق بينها وبين سائر مواضع السجود) ([32]) ا هـ.
وقال ابن العربي المالكي في أحكام القرآن: (والذي عندي أنها ليست موضع سجود، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها، فسجدنا للاقتداء به) ([33]).
¥