قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (ومن المعلوم أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لأصحابه أن السجود لايكون إلاَّ على وضوء؛ لكان هذا مِمَّا يعلمه عامتهم؛ لأنهم كلهم كانوا يسجدون معه، وكان هذا شائعاً في الصحابة، فإذا لم يُعرف عن أحد منهم أنه أوجب الطهارة لسجود التلاوة، وكان ابن عمر من أعلمهم وأفقههم وأتبعهم للسنّة، وقد بقي إلى آخر الأمر ويسجد للتلاوة على غير طهارة؛ كان هذا مِمَّا يبيّن أنه لم يكن معروفاً بينهم أن الطهارة واجبة لها، ولو كان هذا مِمَّا أوجبه النبي صلى الله عليه وسلم لكان ذلك شائعاً بينهم، كشياع وجوب الطهارة للصلاة، وصلاة الجنازة.
وابن عمر لم يُعرف أن غيره من الصحابة أوجب الطهارة فيها ([15])، ولكن سجودها على الطهارة أفضل باتفاق المسلمين) ([16]) ا هـ.
4 - أن السجود من جنس ذكر الله وقراءة القرآن والدعاء، ولهذا شُرع في الصلاة وخارجها، فكما لايشترط الوضوء لهذه الأمور، وإن كانت من أجزاء الصلاة - فكذا لايشترط للسجود ([17]).
6 - وعن أبي عبدالرحمن السلمي، أنه كان يقرأ السجدة، ثُمَّ يسجد وهو على غير وضوء، إلى غير القبلة، وهو يمشي يومئ إيماءً ([18]).
وعن الشعبي في الرجل يقرأ السجدة على غير وضوء؟ قال: يسجد حيث كان وجهه ([19])) ([20]) ا هـ.
وأمَّا الموجبون للطهارة لسجود التلاوة فقالوا: إنه صلاة وله تحريم وتحليل، وكل ما تحريمه التكبير وتحليله التسليم فمفتاحه الطهور للحديث الصحيح المشهور: {مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم} ([21]).
وسجود التلاوة سجود، والسجود من الصلاة، وبعض الصلاة له حكم الصلاة.
وكذلك القياس يقتضي إلحاقه بالصلاة في مثل هذا الحكم.
وقد روى البيهقي من حديث الليث، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لايسجد الرجل إلاَّ وهو طاهر ([22]). وهذا يخالف ما رويتموه عن ابن عمر، مع أن في بعض الروايات: وكان ابن عمر يسجد على وضوء، وهذا هو اللائق به، لأجل رواية الليث.
والجواب على هذه الاستدلالات:
1 - أمَّا استدلالكم بقوله: {تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم} فهو من أقوى ما يحتج به عليكم، فإن أئمة الحديث والفقه ليس منهم أحد قط نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنه سلم من سجود التلاوة، وأمَّا التكبير فالحديث المروي فيه ضعيف لايحتج به ([23]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وسجود القرآن لايشرع فيه تحريم ولا تحليل، هذا هو السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عامة السلف، وهو المنصوص عن الأئمة المشهورين، وعلى هذا فليست صلاة، فلاتشترط لها شروط الصلاة، بل تجوز على غير طهارة ... ) ([24]) ا هـ.
2 - وأمَّا قولكم: إن السجود من الصلاة، وبعض الصلاة صلاة؛ فيُجاب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه لايكون بعض الصلاة صلاة إلاَّ إذا تمت كما أُمر بها المصلي، ولو أن أحداً كبّر وقرأ وركع ثُمَّ قطع عمداً؛ لما قال أحدٌ من أهل الإسلام إنه صلى شيئاً، بل يقولون كلهم: إنه لم يصل، ولو أتمها ركعة في الوتر أو ركعتين في الجمعة والصبح والسفر والتطوع لكان قد صلى بلا خلاف ([25]).
والوجه الثاني: يقال لكم من طريق الإلزام: إن القيام بعض الصلاة، والتكبير بعض الصلاة، وقراءة الإمام بعض الصلاة، والجلوس بعض الصلاة، والسلام بعض الصلاة؛ فيلزمكم على هذا أن لاتجيزوا لأحدٍ أن يقوم ولا أن يكبر ولا أن يقرأ أم القرآن ولايجلس ولايسلم إلاَّ على وضوء؛ وهذا ما لاتقولونه فبطل احتجاجكم ([26])، واللهُ يقول الحق وهو يهدي السبيل.
3 - وأمَّا قياس سجود التلاوة على الصلاة فممتنع لوجهين:
أحدهما: أن الفارق بينه وبين الصلاة أكثر وأظهر من الجامع؛ إذ لا قراءة فيه ولا ركوع لا فرضاً ولا سنة، ولا مُصَّافة فيه، فليس إلحاق محل النزاع بصور الاتفاق أولى من إلحاقه بصور الافتراق.
¥