"ثمإن القائل: "فيما بلغنا" هو الزهري، ومعنى الكلام: أن في جملة ما وصلإلينا من خبر رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذه القصة، وهو من بلاغاتالزهري، وليس موصولا. ووقع عند ابن مردويه في "التفسير" من طريق محمد بنكثير عن معمر بإسقاط قوله: "فيما بلغنا"، ولفظه: "فترة حزن النبي صليالله عليه وسلم منها حزنا غدا منه ... " إلى آخره، فصار كله مدرجا علىرواية الزهري عن عروة عن عائشة. والأول هو المعتمد".
قلت: يعني: أنه ليس بموصول، ويؤيده أمران:
الأول: أن محمد بن كثير هذا ضعيف؛ لسوء حفظه - وهو الصنعاني المصيصي -؛ قال الحافظ:
"صدوق كثير الغلط".
وليس هو محمد بن كثير العبدي البصري؛ فإنه ثقة.
والآخر: أنه مخالف لرواية عبدالرزاق: حدثنا معمر ... التي ميزت آخر الحديث عن أوله، فجعلته من بلاغات الزهري.
كذلك رواه البخاري من طريق عبدالله بن محمد: حدثنا عبدالرزاق ...
وكذلك رواه الإمام أحمد (6/ 232 - 233): حدثنا عبدالرزاق به.
ورواهمسلم في "صحيحه" (1/ 98) عقب رواية يونس عن ابن شهاب به دون البلاغ، ثمقال: وحدثني محمد بن رافع: حدثنا عبدالرزاق ... وساق الحديث بمثل حديثيونس، مع بيان بعض الفوارق اليسيرة بين حديث يونس ومعمر، ولم يسقالزيادة. ولولا أنها معلولة عنده بالانقطاع؛ لما استجاز السكوت عنهاوعدم ذكرها؛ تفريقا بين الروايتين أو الحديثين، مع أنه قد بين منالفوارق بينهما ما هو أيسر من ذلك بكثير! فدل هذا كله على وهم محمد بنكثير الصنعاني في وصله لهذه الزيادة، وثبت ضعفها.وممايؤكد ذلك: أن عبدالرزاق قد توبع على إسناده مرسلا، فقال ابن جرير في "تاريخه" (2/ 305 - دار المعارف): حدثنا محمد بن عبدالأعلى قال: حدثناابن ثور عن معمر عن الزهري قال:
فتر الوحي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فترة، فحزن حزنا شديدا، جعل يغدو إلى رؤوس شواهق الجبال ليتردى منها ... الحديث.
وابن ثور: اسمه محمد أبو عبدالله العابد، وهو ثقة.
فثبت بذلك يقينا وهم محمد بن كثير الصنعاني في وصله إياها.
فإن قيل: فقد تابعه النعمان بن راشد فقال: عن الزهري عن عروة عن عائشة به نحوه. أخرجه الطبري (2/ 298 - 299)؟!
فأقول: إن حال النعمان هذا مثل حال الصنعاني في الضعف وسوء الحفظ؛ فقال البخاري:
"في حديثه وهم كثير". وفي "التقريب":
"صدوق سيىء الحفظ".
قلت: وفي حديثه هذا نفسه ما يدل على سوء حفظه؛ ففيه ما نصه:
"ثمدخلت على خديجة فقلت: زملوني زملوني. حتى ذهب عني الروع، ثم أتاني فقال: يا محمد! أنت رسول الله - قال: - فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق منجبل، فتبدى لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمد! أنا جبريل وأنت رسولالله. ثم قال: اقرأ. قلت: ما أقرأ؟ قال: فأخذني فغتني ثلاث مرات؛حتى بلغ مني الجهد، ثم قال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فقرأت ... " الحديث!!
قلت: فجعل النعمان هذا الأمر بالقراءة بعد قصة الهم المذكور، وهذامنكر مخالف لجميع الرواة الذين رووا الأمر دونها، فذكروه في أول حديث بدءالوحي، والذين رووها معه مرسلة أو موصولة؛ فذكروها بعده.
ومن ذلك: ما أخرجه ابن جرير أيضا (2/ 300 - 301) قال: حدثنا ابن حميد قال: حدثناسلمة عن محمد بن إسحاق قال: حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال:
سمعتعبدالله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا ياعبيد! كيف كان بدء ما ابتدىء به رسول الله صلي الله عليه وسلم من النبوةحين جاء جبريل عليه السلام؟
قلت ... فذكر الحديث، وفيه - بعد الأمر المشار إليه -:
قال: "فقرأته. قال: ثم انتهى، ثم انصرف عني، وهببت من نومي، وكأنما كتبفي قلبي كتابا. [قال: ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إلي من شاعر أومجنون، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما! قال: قلت: إن الأبعد - يعني: نفسه - لشاعر أو مجنون؟! لا تحدث بها عني قريش أبدا، لأعمدن إلى حالق منالجبل فلأطرحن نفسي منه، فلأقتلنها فلأستريحن]. قال: فخرجت أريد ذلك،حتى إذا كنت في وسط الجبل؛ سمعت صوتا من السماء ... " الحديث.
ولكن هذا الإسناد مما لا يفرح به، لا سيما مع مخالفته لما تقدم من روايات الثقات؛ وفيه علل:
¥