تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لقد وَهِمَ الكثيرُ في العصر الحالي بعدمِ التَّفريق بين الرِّواية والدِّيانة، فإنَّ العلماء سابقًا يَشترطون في الرَّاوي أنْ يكون عدلاً ضابطًا، وقد اختلف العُلماء اختلافًا بَيِّنًا في الرِّواية عن أهل البدع، الرَّاجح من هذا - والذي ساروا عليه سيْرًا عمليًّا -: هو أخذُ الرِّواية عن الثِّقة، سواء كان مِن أهل البدع أم من أهل السُّنَّة، فنجد أنَّ كثيرًا من العُلماء تَركَ الحديث عن عُظماءَ مِن أهل السُّنَّة؛ لِقلَّةِ ضبطِهم، أو سوءِ حِفظهم، أو نحو ذلك.

قال الحافظ ابن حجر في "نزهة النَّظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر (126 - 128) ":

"البدعة ورواية المبتدع:

ثم البِدعة: وهي السَّببُ التَّاسع مِن أسبابِ الطَّعن في الرَّاوي: وهي إمَّا أن تكون بمكَفِّرٍ:

1 - كأن يَعتقد ما يَسْتلزم الكفرَ.

2 - أو بمُفَسِّقٍ.

فالأوَّل: لا يَقْبَلُ صاحِبَهَا الجمهورُ، وقيل: يُقبل مطلقًا، وقيل: إن كان لا يَعْتقد حِلَّ الكذب لنُصرة مقالته قُبِلَ.

والتحقيقُ: أنَّه لا يُرَدُّ كُلُّ مُكَفَّرٍ ببدعةٍ؛ لأنَّ كلَّ طائفةٍ تَدَّعي أنَّ مخالفيها مبتدعةٌ، وقد تُبالغ فتكفِّر مخالفَها، فلو أُخِذَ ذلك على الإطلاق، لاستلزم تكفيرَ جميعِ الطوائفِ.

فالمعتمد: أنَّ الذي تُرَدُّ روايتُه مَن أَنكر أمرًا متواترًا مِن الشَّرع، معلومًا من الدِّين بالضَّرورة، وكذا مَن اعتقدَ عكسَهُ، فأمَّا مَن لم يكنْ بهذه الصِّفة، وانضمَّ إلى ذلك ضَبْطُهُ لِما يرويه، مع ورعه وتقواه - فلا مانعَ مِن قَبوله.

والثاني: وهو مَنْ لا تقتضي بدعتُهُ التَّكفيرَ أصلاً، وقد اختُلِف أيضًا في قَبوله وَرَدِّهِ:

فقيل: يُرَدُّ مطلقًا، وهو بعيدٌ، وأكثر ما عُلِّلَ به أنَّ في الرِّواية عنه ترويجًا لأمره، وتنويهًا بذِكْره، وعلى هذا فينبغي أن لا يُرْوَى عن مبتدعٍ شيءٌ يُشاركه فيه غيرُ مبتدعٍ.

وقيل: يُقْبَل مطلقًا، إِلاَّ إنِ اعتقد حِلَّ الكذب، كما تقدَّم.

وقيل: يُقْبَلُ مَن لم يكنْ داعيةً إلى بدعته؛ لأنَّ تزيين بدعته قد يَحْمِلُهُ على تحريفِ الرِّواياتِ وتسويتها على ما يَقْتضيه مذهبُهُ، وهذا في الأصحِّ.

وأغربَ ابنُ حبَّان؛ فادَّعى الاتفاقَ على قَبولِ غير الدَّاعية، مِن غيرِ تفصيلٍ.

نعمْ، الأكثر على قَبول غير الدَّاعية، إلاَّ أنْ يَرويَ ما يُقَوِّي بدعتَه فَيُرَدُّ، على المذهب المختار، وبه صرَّح الحافظ أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن يعقوب الجُوزجانيُّ، شيخ أبي داودَ والنَّسائيِّ، في كتابه "معرفة الرجال فقال في وصْف الرُّواة: ومنهم زائغٌ عن الحقِّ - أي: عن السُّنَّة - صادقُ اللَّهجة؛ فليس فيه حيلةٌ إلاَّ أن يؤخذَ مِن حديثه ما لا يكون منكَرًا، إذا لم يُقَوِّ به بدعتَه، انتهى.

وما قاله مُتَّجِهٌ؛ لأنَّ العلَّةَ التي لها رُدَّ حديثُ الدَّاعية واردةٌ فيما إذا كان ظاهرُ المرويِّ يوافِق مذهبَ المبتدع، ولو لم يكن داعيةً، والله أعلم". اهـ.

وقد أخذوا عن أهل البدعِ ما عندَهم مِن صحيح الرِّواية.

ومن أمثلة ذلك:

1 - بعض أقوال الإمام أحمد في بعض الرُّواة من كتاب "بحر الدم":

أ - خلف بن هشام بن تغلب المقري: قيل لأحمد: إنَّه يشرب - يعني: النَّبيذ - قال: قدِ انتهى إلينا عِلم هذا عنه، ولكن هو والله عندَنا الثِّقة، شرب أو لم يشربْ.

ب - علي بن بذيمة، الحرانيُّ: قال أحمد: صالح الحديث، لكنَّه رأس في التَّشيُّع.

ج - عمرو بن الهيثم بن قطن، أبو قطن، الزبيدي: وثَّقه أحمد.

وقال إبراهيم الحربي: حدثنا أحمد بن حنبل يومًا عن أبي قطن، فقال له رجلٌ: إنَّ هذا بعدما رجع مِن عندكم إلى البصرة تكلَّم في القدر، وناظر عليه، فقال أحمد: نحن نحدِّث عن القدريَّة، لو فتَّشتَ أهل البصرة وجدتَ ثُلثَهم قدريَّة.

2 - من كلام بعض العُلماء:

أ - قال مكيُّ بن عبدان: سألتُ مسلمًا عن علي بن الجعد، فقال: ثقة، ولكنَّه كان جهميًّا. "الثقات لابن حبان".

ب - قال الذهبيُّ في "سير أعلام النبلاء (ج 6/ ص 383) ": عوف بن أبي جميلةَ الإمام الحافظ أبو سهل الأعرابيُّ البصري، قال ابن المبارك: ما رضي عوفٌ ببدعةٍ حتَّى كان فيه بدعتان: قدري، شيعي، وقال الأنصاريُّ: رأيتُ داود بن أبي هند يضرب عوفًا ويقول: ويلك يا قدريُّ، قال بندار: كان قدريًّا، رافضيًّا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير