وفي الحديث التوصية بخير القرون وهم الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
وقد وعدنا أن نذكر هاهنا طرقا من الكلام على ما ورد من معارضة الأحاديث القاضية بأفضلية الصحابة فنقول:
(قد تقدم في باب من أعلم صاحب الحق بشهادة له عنده وذم من أدى شهادة من غير مسألة حديث عمران ابن حصين وحديث أبي هريرة أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي ذلك دليل على أنهم الخيار من هذه الأمة وأنه لا أكثر خيرا منهم وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك باعتبار كل فرد فرد وقال ابن عبد البر (إن التفضيل إنما هو بالنسبة إلى مجموع الصحابة فإنهم أفضل ممن بعدهم لا كل فرد منهم)
وقد أخرج الترمذي بإسناد قوي من حديث أنس مرفوعا " مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره " وأخرجه أبو يعلى في مسنده بإسناد ضعيف وصححه ابن حبان من حديث عمار وأخرج ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير بإسناد حسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ((ليدركن المسيح أقواما أنهم لمثلكم أو خير ثلاثا ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها)) ولكنه مرسل لأن عبد الرحمن تابعي.
وأخرج الطيالسي بإسناد ضعيف عن عمرو رفعه: ((أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولا يروني))
وأخرج أحمد والدارمي والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة:
يا رسول الله أحد خير منا أسلمنا معك وجاهدنا معك قال: ((قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني)) وقد صححه الحاكم وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة رفعه:
((بدأ الإسلام غيبا وسيعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء)).
وأخرج أبو داود والترمذي من حديث ثعلبة رفعه: ((تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين قيل منهم أو منا يا رسول الله قال بل منكم))
وجمع الجمهور بأن الصحبة لها فضيلة ومزية لا يوازيها شيء من الأعمال فلمن صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة الصحبة وإن قصر في الأعمال وفضيلة من بعد الصحابة باعتبار كثرة الأعمال المستلزمة لكثرة الأجور.
فحاصل هذا الجمع أن التنصيص على فضيلة الصحابة باعتبار فضيلة الصحبة وأما باعتبار أعمال الخير فهم كغيرهم قد يوجد فيمن بعدهم من هو أكثر أعمالا منهم، أو من بعضهم فيكون أجره باعتبار ذلك أكثر فكان أفضل من هذه الحيثية.
ويشكل على هذا الجمع ما ثبت في الأحاديث الصحيحة في الصحابة بلفظ ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) فإن هذا التفضيل باعتبار خصوص أجور الأعمال لا باعتبار فضيلة الصحبة.
ويشكل عليه أيضا حديث ثعلبة المذكور فإنه قال ((للعامل فيهن أجر خمسين رجلا)) ثم بين أن الخمسين من الصحابة وهذا صريح في أن التفضيل باعتبار الأعمال، فاقتضى الأول أفضيلة الصحابة في الأعمال إلى حد يفضل نصف مدهم مثل أحد ذهبا، واقتضى الثاني تفضيل من بعدهم إلى حد يكون أجر العامل أجر خمسين رجلا من الصحابة، وفي بعض ألفاظ حديث ثعلبة ((فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كالقبض على الجمر أجر العامل فيهن أجر خمسين رجلا فقال بعض الصحابة منا يا رسول الله أو منهم فقال بل منكم)) فتقرر بما ذكرناه عدم صحة ما جمع به الجمهور
وقال النووي في حديث ((أمتي كالمطر)) أنه يشبته على الذين يرون عيسى ويدركون زمانه وما فيه من الخير أي الزمانين أفضل، قال: وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وآله وسلم ((خير القرون))، ولا يخفى ما في هذا من التعسف الظاهر، والذي أوقعه فيه عدم ذكر فاعل يدري، فحمله على هذا، وغفل عن التشبيه بالمطر المفيد لوقوع التردد في الخيرية من كل أحد
والذي يستفاد من مجموع الأحاديث أن للصحابة مزية لا يشاركهم فيها من بعدهم وهي صحبته صلى الله عليه وآله وسلم ومشاهدته والجهاد بين يديه وإنفاذ أوامره ونواهيه، ولمن بعده مزية لا يشاركه الصحابة فيها وهي إيمانهم بالغيب في زمان لا يرون فيه الذات الشريفة التي جمعت من المحاسن ما يقود بزمام كل مشاهد إلى الإيمان إلا من حقت عليه الشقاوة وأما باعتبار الأعمال فأعمال الصحابة فاضلة مطلقا من غير تقييد لحالة مخصوصة كما يدل عليه ((لو أنفق أحدكم ومثل أحد الحديث)). إلا أن هذه المزية للسابقين منهم فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطب بهذه المقالة جماعة من الصحابة الذين تأخر إسلامهم كما يشعر بذلك السبب وفيه قصة مذكورة
¥