وعلى فرض صحة هذا الاحتمال: يكون عبد الله بن بريدة عاش سنوات في المدينة طفلاً، ثم انتقل مع أبيه إلى خراسان غازيًا، ومن ثَمَّ فمعاصرته عائشة كانت في المدينة وهو طفل، فلا يصح له سماع إذن.
وإن كان هذا الاحتمال ساقطًا: فإن شهود عبد الله بن بريدة الدار يوم قتل عثمان لا يتنافى مع كونه صغيرًا وقتها، فقد يشهد الوقعة صغيرًا ويعرف بعض شاهديها.
فأفاد هذا المبحث أن المعاصرة الواقعة بين عبد الله بن بريدة - حال صحة تحمُّله الرواية - وعائشة - رضي الله عنها - وإن طالت = إنما كانت في الزمان فقط، وكان المكان بينهما متباعدًا، فسماعه منها فيه بعدٌ، كما حكم الإمام الجهبد أبو الحسن الدارقطني.
3 - من مؤيدات نفي الدارقطني السماع: أن عبد الله بن بريدة يُدخل واسطة بينه وبين عائشة، وهذه الرواية في صحيح البخاري (3474، 5734، 6619) وغيره من طريق داود بن أبي الفرات عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن عائشة - رضي الله عنها -، وهذه القرينة - أعني: إدخال الراوي واسطة بينه وبين شيخه - مهمة جدًّا، والأئمة يستدلون بها كثيرًا على عدم سماع هذا الراوي من شيخه. وأمرها ظاهر، ولو كان عبد الله بن بريدة سمع من عائشة ما احتاج أن يدخل بينه وبينها يحيى بن يعمر أو غيره.
4 - ومما يؤيد أنه لم يسمع: أنه - إن صحَّ هذا الاحتمال - يرسل روايته أحيانًا عن عائشة، ويعنعنها أحيانًا، وهذا دليل على أنه لم يسمع منها.
وقد عارض بعض العلماء نفيَ الدارقطني ثم البيهقي سماع عبد الله بن بريدة من عائشة، وذكروا أن المعاصرة كافية في الحكم باتصال الرواية مع أمن التدليس، وعبد الله بن بريدة عاصر عائشة زمنًا طويلاً، ولم يُرمَ بتدليس (الجوهر النقي: 7/ 118، السلسلة الصحيحة: 7/ 1010).
والجواب عن هذا: أن كلام الدارقطني والبيهقي ينفي صحة الحكم بأن المعاصرة كافية في الاتصال، لأنهما من أكابر المحدثين، ويعلمان يقينًا معاصرة عبد الله بن بريدة عائشةَ، ولم يحكما بالسماع مع ذلك، لأنهما يشترطان السماع لا المعاصرة فحسب، وهذه مسألة طويلة الذيل، متشعبة، قويٌّ فيها الخلاف، إلا أن الأرجح في ذلك التفريق بين البخاري ومسلم في منهجهما، وسلوك سبيل البخاري - رحمةُ الله على الجميع-.
ثم لو سلمنا بأن المعاصرة كافية، فإن القرائن قد دلت على أن معاصرة ابن بريدة عائشةَ - بالخصوص - لا تفيد في إثبات الاتصال، لأن المعاصرة الزمانية والمكانية كانت في زمن لا يصح التحمّل فيه، ثم انفصلا وتباعدت ديارهما، ثم إن عبد الله يدخل واسطة بينه وبين عائشة، وهاتان قرينتان قويتان على عدم اتصال روايته عنها.
وفي هذا الشأن قال الشيخ الألباني - رحمه الله - بعد أن نقل كلام الدارقطني والبيهقي (الصحيحة: 7/ 1009): «كذا قالا! وقد كنت تبعتهما برهة من الدهر في إعلال الحديث المشار بالانقطاع في رسالتي «نقد نصوص حديثية» (ص45)، والآن فقد رجعت عنه؛ لأني تبينت أن النفي المذكور لا يوجد ما يؤيده، بل هو مخالف لما استقر عليه الأمر في علم المصطلح أن المعاصرة كافية لإثبات الاتصال بشرط السلامة من التدليس ... » إلخ، ويظهر لك أنه قد وُجد ما يؤيد قول الدارقطني والبيهقي، والأصل أن كلام جهابذة الحديث وأئمته ونقاده - إذا لم يخالفهم مثلهم، أو يثبت خطؤهم - يقبل ثم يُبحث له عما يؤيده، لا أن يُردَّ بدعوى أنه لا شيء يؤيده، ولو قُبل ردُّ كلام الأئمة وأحكامهم بهذه الدعوى، لما كان لكلامهم فائدة، ولما كان لإمامتهم في هذا العلم وجه، ولكان شطر من أحكامهم وأقوالهم لغوًا لا دليل عليه!
ومن الغريب قول الشيخ - رحمه الله -: «بل هو مخالف لما استقر عليه الأمر في علم المصطلح ... »، والحقُّ أن ما استقر عليه الأمر في علم المصطلح هو المخالف لكلام الدارقطني والبيهقي! فاستقرار الأمر في علم المصطلح لم يكن إلا بعد البيهقي يقينًا، وعند الخلاف بين متقدم ومتأخر = يكون المتأخر مخالفًا للمتقدم، لا العكس، وهذا يُظهِرُ أن في علم المصطلح المتأخر ما هو مخالف لما عليه أئمة النقد، وهو دليل على الخلاف بين المتقدمين والمتأخرين، وهو ما لا ينكره العارف المتأمل البصير المتجرد للحق، والله أعلم.
¥