وقد ذكر ابن التركماني طرفًا من الكلام عن إمكان سماع عبد الله بن بريدة من عائشة، ثم قال: «على أن صاحب الكمال صرح بسماعه منها» (الجوهر النقي: 7/ 118)، ويظهر أنه لم يعتمد هذا دليلاً، لأن الأدلة والقرائن قائمة على نفي السماع، وذِكْرُ المترجِمِين - خاصة المتأخرين - سماعات الرواة لا يقوم دليلاً بذاته في الغالب، هذا إن صحَّ أن صاحب الكمال يذكر السماعات، ولم تكن طريقته كما في تهذيبه: بذكر روايات التلاميذ عن الشيوخ ما صحَّ منها وما لم يصح.
ومما يحتج به نفاة الانقطاع: قول الترمذي عقب هذا الحديث: «حسن صحيح»، فبعد أن نقل ابن حجر كلام الدارقطني قال: «قلت: صحح له الترمذي حديثه عن عائشة في القول ليلة القدر من رواية جعفر بن سليمان بهذا الإسناد، ومقتضى ذلك أن يكون سمع منها، ولم أقف على قول أحد وصفه بالتدليس» (إتحاف المهرة: 17/ 6)، فمفهوم كلام الترمذي أنه يرى اتصال رواية عبد الله بن بريدة عن عائشة، إلا أنه سبق أن الأدلة إنما تدل على الانقطاع، وليس ثمة ما يؤيد اتصال هذه الرواية، والأخذ بمنطوق الدارقطني والبيهقي أولى من الأخذ بمفهوم كلام الترمذي.
وعلى كلِّ حال، فإن الراجح من كل هذا صحة حكم الدارقطني والبيهقي - رحمهما الله -، من أن عبد الله بن بريدة لم يسمع من عائشة شيئًا، فالحديث بهذا الإسناد منقطع، ولا يصح، ومن ثَمَّ فلا يصح المرفوع من الحديث، ويبقى النظر في الموقوفات عن عائشة - رضي الله عنها -.
دراسة أسانيد الروايات الموقوفة عن عائشة:
1 - إسناد رواية شريح بن هانئ صحيح إن ثبت سماع أبي إسحاق الشيباني من العباس بن ذريح، والعباس بن ذريح من شريح بن هانئ، فإن روايتهم عن بعضهم بالعنعنة.
2 - في طريق مسروق: عبد الله بن جبير، شريك مسروق على السلسلة، ولم أجد ترجمة لعبد الله هذا، وقد جاءت تسميته في تاريخ واسط لبحشل
(ص38): عبد الله بن حنين، ولم أجد له بهذا الاسم ترجمةً أيضًا، ولعل كونه شريكًا لمسروق يدل على معرفته به، وعلاقةٍ بينهما.
3 - في رواية الحسن عن عائشة: الربيع بن صبيح، متكلم فيه، والراوي عنه معروف الكرخي، اشتهر بالزهد والصلاح، قال ابن حبان: «ليس له حديث يُرجع إليه» (الثقات: 9/ 206).
ثم إن بعض العلماء ذكر أن الحسن لم يسمع من عائشة (تهذيب الكمال: 6/ 97).
ومن ثمَّ فلم يخلُ طريق من الموقوفات عن عائشة من كلام، وأصحها الوجه الأول، وضعف كل طريق مما يحتمل، واجتماع هذه الطرق يدل على صحة الوجه الموقوف عن عائشة - رضي الله عنها -.
فالثابت من الحديث إذن الموقوفُ دون المرفوع عن عائشة - رضي الله عنها -، والله تعالى أعلم.
تنبيهات:
1 - قال الألباني - رحمه الله - بعد أن ذكر الموقوف عن عائشة معضِّدًا للمرفوع: «ومن الظاهر أنها لا تقول ذلك إلا بتوقيف. والله أعلم»، لكنَّ هذا غير ظاهر، والدعاء باب واسع، والوارد عن الصحابة من الدعاء كثير، والحكم بأنهم لا يقولونه إلا بتوقيف يحتاج إلى دليل، والله أعلم.
2 - تنبيه حول زيادة «كريم» في الدعاء: قال الألباني - رحمه الله -: «وقع في «سنن الترمذي» بعد قوله: «عفو» زيادة: «كريم»، ولا أصل لها في شيء من المصادر المتقدمة، ولا في غيرها ممن نقل عنها، فالظاهر أنها مدرجة من بعض الناسخين أو الطابعين؛ فإنها لم ترد في الطبعة الهندية من «سنن الترمذي» التي عليها شرح «تحفة الأحوذي» للمباركفوري (4/ 264)، ولا في غيرها. وإن مما يؤكد ذلك: أن النسائي في بعض رواياته أخرجه من الطريق التي أخرجها الترمذي، كلاهما عن شيخهما (قتيبة بن سعيد) بإسناده دون الزيادة ... » ا. هـ.
وزيادة «كريم» ليست في نسخة الكروخي (ق240أ)، وهي أوثق نسخ الترمذي.
3 - تنبيهٌ آخر حول زيادةٍ أخرى في الحديث، جاءت في رواية الحسن بن مكرم عن يزيد بن هارون عن كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عائشة، قال في آخرها: قال يزيد: لا أعلمه إلا قال: «ثلاثًا»، وهذه الزيادة لم تجئ في رواية من روايات الحديث إلا هذه، ولم يذكرها الإمام أحمد في روايته هذا الإسناد عن يزيد بن هارون، ويزيد بن هارون - إن صح أنه رواها - كان شاكًّا فيها، فهي غير معتبرة.
ملحوظة: استفدتُ كلام الدارقطني في العلل في فرات بن محبوب، وتسمية الراوي عن مسروق: عبدَ الله بن حنين= من تخريج الشيخ الفاضل ياسر بن فتحي المصري كتابَ (الذكر والدعاء والعلاج بالرقى من الكتاب والسنة)، انظره: 3/ 975 - 977.
وإن كان ثمة ملاحظة أو تنبيه فحيّهلا، وأحسن الله إلى المُحسن إليَّ في ذلك.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـ[أسامة بن صبري]ــــــــ[15 - 10 - 06, 12:16 م]ـ
جزاك الله خير الجزاء
كنت محتاجا إلى تخريج هذا الحديث
ـ[المسيطير]ــــــــ[15 - 10 - 06, 02:40 م]ـ
ومن ثمَّ فلم يخلُ طريق من الموقوفات عن عائشة من كلام، وأصحها الوجه الأول، وضعف كل طريق مما يحتمل، واجتماع هذه الطرق يدل على صحة الوجه الموقوف عن عائشة - رضي الله عنها -.
فالثابت من الحديث إذن الموقوفُ دون المرفوع عن عائشة - رضي الله عنها -، والله تعالى أعلم.
.
الأخ الكريم ابن الكرام / محمد بن عبدالله
بارك الله لك في علمك، وعملك، وعمرك، وأهلك، وذريتك (بعدين:)، ومالك، ورزقك من خير الدنيا والآخرة من حيث لا تحتسب.
¥