وقد ذكر البخاري وابن حبان روايةً عن فطر عن أبي إسحاق عن عبد الجبار بن وائل= فيها التصريح بسماع عبد الجبار من أبيه، وخطَّآها [54]، والذي وجدتُهُ: رواية الحديث التي أخرجها ابن قانع في معجم الصحابة من طريق خلاد بن يحيى عن فطر عن عبد الجبار قال: سمعت أبي، وخلاد قال فيه أبو حاتم: «محله الصدق»، وقال: «ليس بذاك المعروف»، وقال محمد بن عبد الله بن نمير: «صدوق إلا أن في حديثه غلطاً قليلاً» [55]، وهو قد أخطأ في ذكر السماع هنا، لأنه خالف جماعةً من الرواة، فيهم أئمة، هم: وكيع وعبد الله بن داود ومحمد بن بشر وأبو نعيم الفضل بن دكين وحجاج بن نصير [56]، كلهم رووه عن فطر، لم يذكروا سماعًا، فتحقق خطأ خلاد في هذا السماع.
فتحصّل أن عبد الجبار لم يسمع من أبيه، وأما الإدراك، فإن الخلاف فيه واقع، وإن كان نقل الأئمة القول بأنه لم يدرك أباه فيه شائبة عدم رضاهم به، فالأقرب أنه أدرك أباه، وإن كان الإدراك لا يفيدنا شيئًا في هذه المسألة ما دام السماع لم يثبت.
وقد وصف ابن حبان هذا الانقطاع بالتدليس، قال: «عبد الجبار بن وائل بن حجر، مات أبوه وائل وأمه حامل به، كل ما روى عن أبيه مدلَّس»
[57]، والأصل في هذا أن الرواية مع عدم الإدراك لا تسمى تدليسًا، لكن لعل إطلاق ابن حبان على سبيل التوسع [58]، ويدلُّ لهذا أن ابن حبان نفسه قال في رواية عبد الجبار عن أبيه: «وهذا ضرب من المنقطع الذي لا تقوم به الحجة» [59].
ومع هذا كلِّه، فإن هذا الانقطاع مغتفرٌ، ولا يؤثر في صحة هذا الحديث خاصةً، وإليك البيان:
فإن للانقطاع في الحديث درجات باعتبار مرتبة الساقط من الإسناد، إذ من المتقرر أن شرط اتصال الإسناد يرجع في نهاية الأمر إلى الشرطين الأولين، وهما عدالة الرواة وضبطهم، فإذا أمكن معرفة درجة الساقط تحديدًا أو تقريبًا، فالحكم على الإسناد حينئذٍ يكون بحسب درجة هذا الساقط.
1 - ويتهيأ في أحيان كثيرة معرفة الساقط من الإسناد في الحديث المعين على وجه التحديد، إما بوروده في رواية أخرى، أو بنص إمام من أئمة هذا الشأن.
2 - وإذا لم يتهيأ تسمية الساقط من الإسناد في الحديث المعين، فقد يتهيأ تسميته في جملة ما يرويه الراوي عن ذلك الشيخ الذي أَسقط مَنْ دونَه، إما بتسميته على وجه التعيين، أو بتسمية عدد من الرواة.
3 - وإذا لم يتهيأ تسمية الواسطة في الحديث المعين، أو في جملة ما يرويه الراوي عمن أرسل أو دلس عنه، فالدرجة الثالثة أن يعرف بالقرائن حال من يسقطهم هذا المرسل أو المدلس عادة [60].
ومن منهج الأئمة النقاد تصحيح - أو تقوية - بعض الروايات المنقطعة لهذه العلة، فمن ذلك: قول الإمام يعقوب بن شيبة: «إنما استجاز أصحابنا أن يدخلوا حديث أبي عبيدة عن أبيه في المسند لمعرفة أبي عبيدة بحديث أبيه وصحتها، وأنه لم يأت فيها بحديث منكر» [61]، وغيره مما ليس هذا موضع ذكره.
والظاهر من حال رواية عبد الجبار بن وائل، وكلام الأئمة حولها، وتصرفاتهم معها= أنها مع انقطاعها، لا بأس بها، مقبولة، بل قد تصحَّح.
فأولاً: قد وردت رواياتٌ لهذا الحديث بعينه عن عبد الجبار بن وائل بذكر الواسطة بينه وبين أبيه، وهي: أخوه علقمة بن وائل ومولى لهم، وفي رواياتٍ: أهل بيته، وعلقمة ثقة، وأهل بيته إن لم يكن المقصود بهم هو علقمة والمولى= فهم غيرُ واحدٍ، وهذه الروايات وإن كانت مرجوحةً بالمقارنة مع غيرها، إلا أنه لا يبعد أن يكون الرواة الآخرون قصروا في الأداء، واختصروا الرواية، لأنه من المعلوم عندهم انقطاع رواية عبد الجبار عن أبيه، وأن الواسطة معروفة، ولهذا نظائر، منها ما ذكره ابن أبي حاتم في علله قال: «سألت أبي عن حديث رواه حماد بن سلمة، عن واصل مولى أبي عيينة، عن بشار بن أبي سيف، عن أبي عبيدة بن الجراح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصوم جنة ما لم يخرقها». قال أبي: (حدثنا ابراهيم بن أبي سويد، عن جرير بن حازم، عن واصل، عن بشار بن أبي سيف، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن غضيف، عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصوم جنة ما لم يخرقها»). قلت لأبي: أيهما الصحيح؟ قال: (جميعًا صحيحين، حماد قصَّر به، وجرير جَوَّدَهُ)» [62].
¥