قال العلائي: (وحاصل الأمر أن الراوي متى قال: "عن فلان"، ثم أدخل بينه وبينه في ذلك الخبر واسطة، فالظاهر أنه لو كان عنده عن الأعلى لم يدخل الواسطة، إذ لا فائدة في ذلك، وتكون الرواية الأولى مرسلة إذا لم يعرف الراوي بالتدليس ... وأما ما يسلكه جماعة من الفقهاء من احتمال أن يكون رواه عن الواسطة، ثم تذكر أنه سمعه من الأعلى، فهو مقابَلٌ بمثله، بل هذا أولى، وهو أن يكون رواه عن الأعلى جريًا على عادته، ثم تذكر أن بينه وبينه فيه آخر، فرواه كذلك، والمتبع في التعليل إنما هو غلبة الظن) ا. هـ من جامع التحصيل (ص131، 132).
فذكر العلائي أن منهج الاحتمالات والتجويزات مسلكٌ للفقهاء، ولم يذكره للمحدثين، وقد أجاب عليه بمثله نقضًا للحجة بمثلها، ولبيان أن ذلك المنهج لا يعوَّل عليه في علم الحديث والعلل، لأن المتبع فيه إنما هو غلبة الظن، وأما الاحتمالات والتجويزات فسهلٌ إقامتها ونقضها.
فمثلاً؛ يمكن أن يُقال لمن قال باحتمال أن الراوي روى حديثًا تارةً موقوفًا وتارةً مرفوعًا: ويحتمل أيضًا أن الراوي لم يضبط هذا الحديث فخلَّط فيه واضطرب، فرواه تارةً موقوفًا وتارةً مرفوعًا. وعدم الضبط يسري على الرواة كلِّهم؛ ضعيفِهم وحافظِهم، وإنما تمايزوا كذلك بتفاوت ضبطهم.
ويحتمل كذلك أن الراوي روى الحديث مرفوعًا، ثم تذكَّر أن الحديث موقوفٌ غير مرفوع، فرواه كذلك!
ويحتمل عكس ذلك!
ويحتمل أن الراوي لُقِّن زيادة الرفع، فتلقَّنها، ثم رجع إلى أصوله فوجد الحديث موقوفًا، فوقفه!
فكما قال الشيخ عادل الزرقي: (أما فتح باب الاحتمالات فسهلٌ على كل أحد)، وسهلٌ أيضًا أن يُردَّ على الاحتمال باحتمالٍ ينقضه، وهذا التضارب والتناقض لا يجري على أصول المحدثين القوية المتينة، ولهم في ذلك مناهج لا يعرفها كثير من الفقهاء، فإذا دخلوا فيها لم يحسنوا التصرف، وقد تأثر بهم كثير من المتأخرين من المحدثين، ثم بعض المعاصرين؛ فأسرفوا في الرد على الأئمة المتقدمين حتى جاوز بعضهم الحد وأساء وتعدى، وهم في الأصل لم يفهموا مقاصدَ الأئمة ومراداتِهم ومناهجَهم وطرائقَهم. والله أعلم.
أما بالنسبة للتقصير - أخي أبا صالح -، فيبدو لي أنه لن يُخرَجَ بحكمٍ دقيق إلا باستقراء كلمات الأئمة في ذلك، وأظنه مجالاً جيدًا للبحث والدراسة، والله الموفق والمعين.
ـ[عبدالرحيم الجزائري]ــــــــ[08 - 01 - 07, 12:48 م]ـ
بارك الله فيكم ...
قد استفدت جدا من هذه المباحثة ...
وحبذا لو بينتم لي منهج العلامة الألباني رحمه الله في مثل هذه المسائل،
فإن الاطلاع على مناهج العلماء في التصحيح و التضعيف يساعد كثيرا على فهم هذا العلم (مصطلح الحديث)
ـ[محمد بن عبدالله]ــــــــ[09 - 01 - 07, 11:04 ص]ـ
قال الحافظ ابن دقيق العيد في شرح الإلمام بأحاديث الأحكام (1/ 59) شارحاً قوله (وشرطي فيه أن لا أورد فيه إلا حديث من وثقه إمام من مزكي رواة الأخبار، وكان صحيحاً على طريقة بعض أهل الحديث الحفاظ، أو بعض أئمة الفقهاء النظار، فإن لكل منهم مغزى قصده، وطريقاً أعرض عنه وتركه).
قال: (يريد أن لكل من أئمة الحديث والفقه طريقاً غير طريق الآخر، فإن الذي يبين وتقتضيه قواعد الأصول والفقه أن العمدة في تصحيح الحديث: عدالة الراوي وجزمه بالرواية، ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي وعدم غلطه، فمتى حصل ذلك وجاز ألا يكون غلطاً وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة = لم يترك حديثه.
وأما أهل الحديث فإنهم قد يروون الحديث من رواية الثقات العدول، ثم تقوم لهم علل فيه تمنعهم من الحكم بصحته، كمخالفة جمع كثير له، أو من هو أحفظ منه، أو قيام قرينة تؤثر في أنفسهم غلبة الظن بغلطه، ولم يجر ذلك على قانون واحد في جميع الأحاديث.
ولهذا أقول إن من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند، أو واقف ورافع، أو ناقص وزائد: أن الحكم للزائد = فلم يصب في هذا الإطلاق، فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً، وبمراجعة أحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقول. وأقرب الناس إلى اطراد هذه القواعد بعض أهل الظاهر).
مستفاد من هنا:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=38132
وأما منهج الألباني - رحمه الله - فليس لي كبير علمٍ بهذا، وأذكر أن هناك رسالة جامعية كاملة في منهج الشيخ - رحمه الله - في علوم الحديث.
ولكني أودُّ أن أنقل كلامًا للشيخ ربما وضَّح طريقته في هذا، فقد قال - رحمه الله - في الصحيحة، حديث (131): " هذه بتلك السبقة ":
«أخرجه الحميدي في مسنده (ق 42/ 2) وأبو داود (2578) والنسائي في " عشرة النساء " (ق 74/ 1) والسياق له وابن ماجه (1979) مختصرًا وأحمد (6/ 39 / 264) مختصرًا ومطولاً من طريق جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: " أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سفر، و هي جارية (قالت: لم أحمل اللحم و لم أبدن)، فقال لأصحابه: تقدموا، (فتقدموا) ثم قال: تعالي أسابقك، فسابقته، فسبقته على رجلي، فلما كان بعد (وفي رواية: فسكت عني حتى إذا حملت اللحم و بدنت و نسيت) خرجت معه في سفر، فقال لأصحابه: تقدموا، (فتقدموا)، ثم قال: تعالي أسابقك. و نسيت الذي كان، وقد حملت اللحم، فقلت كيف أسابقك يا رسول الله وأنا على هذا الحال؟ فقال لتفعلن، فسابقته فسبقني، فـ (جعل يضحك، و) قال: ... " فذكره.
قلت: وهذا سند صحيح على شرط الشيخين وقد صححه العراقي في " تخريج الأحياء " (2/ 40).
وخالف الجماعة حماد بن سلمة فقال: " عن هشام بن عروة عن أبي سلمة عنها مختصرًا بلفظ: " قالت: سابقت النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته ".
أخرجه أحمد (6/ 261).
وحماد ثقة حافظ فيحتمل أن يكون قد حفظ ما لم يحفظ الجماعة وأن هشامًا يرويه عن أبيه وعن أبي سلمة. و يؤيده أن حمادًا رواه أيضًا عن علي بن زيد عن أبي سلمة به، أخرجه أحمد (6/ 129، 182، 280)» ا. هـ.
¥