قد يقول قائل: لما جيء بالبراق – الذي ركبه نبينا عليه الصلاة والسلام – مع أنه بإمكان ربنا أن يسري بنبينا عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس دون البراق؟
نقول: فعل هذا لاعتبارين:
الاعتبار الأول: تأنيس بالعادة عند خرق العادة، فقد جرت العادة عندما يدعوك أمير أو صاحب منصب أن يقدم لك مركوباً ويحضر لك عطية ويرسل من يخدمك من أجل أن يصحبك إلى بيته، فهذا مما جرت به العادة.
فآنس ربنا نبيه بالعادة عند خرق العادة لئلا يكون الخارق من جميع الجهات، بل من جهة يأنس فيقدم له مركوب يركبه، ومن جهة أخرى هذا المركوب خرق للعادة وهذا واضح.
الاعتبار الثاني: ليكون أبهى وأفخم لنبينا المكرم عليه صلوات الله وسلامه عندما يسري به إلى بيت المقدس في صورة راكب.
والراكب أعز وأبهى وأعلى مما لو أخذ إلى بيت المقدس في غير هذه الصورة، فلو نقل دون ركوب دابة فيكون قد وصل إلى بيت المقدس في صورة نائم مغمىً عليه، ولو قيل له: ضع خطوك من مكة إلى جهة بيت المقدس ففي خطوتين تصل إلى هناك فهذا يكون قد وصل في صورة ماش ٍ.
وأيها أعز الراكب أم النائم أو الماشي؟ بل الراكب، وانظر إلى ربنا ماذا يقول عن أهل الجنة (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً) والذي سيق دوابهم لا هم، فيسق المتقون وهم يركبون الدواب، فإذن يدخلون الجنة وهم يركبون الدواب والنجائب – جمع نجيبة وهي السباقة من الخيل الكريمة العتاق – ليكون أعز لهم وأبهى، ولا يساقون لأن سوق الإنسان منقصة له.
وهذا المعني أي معنى الآية (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى .. ) يكاد يكون المفسرين مجمعين عليه وما خالف فيه إلا قليل، ولا يوجد أثر مرفوع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الدلالة، وهي أن المتقين تساق نجائبهم، لكن أخذ المفسرون هذا من قول الله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال ابن منظور في لسان العرب (4/ 480) الوفد هم الركبان المكرمون. وانظر إلى كلام الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره (15/ 285) يقول في حق الفريقين " وسيق بلفظ واحدة فسوق أهل النار طردهم إليها بالخزي والهوان كما يفعل بالأسارى والخارجين إلى السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل.
وسوق أهل الجنان سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين"
وهذا هو الذي ذكره الإمام ابن كثير في تفسيره (4/ 65)، وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفداً إلى الجنة.
وأما في حق الكفار فقال تعالى (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً)، فهنا هم سيقوا ودفعوا كما يدفع المسجون المجرم في هذه الحياة إذلالاً لهم، كما قال تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون) ولذلك (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) فيدفع أولهم على آخرهم، وآخرهم على أولهم كما يفعل بالمجرمين في هذه الحياة.
ولذلك انظر إلى ما قاله الله عن أبواب الجنة وما قاله عن أبواب النيران:
(حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) فهذا لأبواب جهنم، أي تفتح بغتة وفجأة، فيساق ولا يدري إلى أن يذهب فلما يقترب منها تصيح وتفتح أبوابها فجأة وتلتهمهم.
وقال عن أبواب الجنة (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) فتساق ركائبهم ونجائبهم التي يركبون عليها والجنة مفتحة أبوابها وهم ينظرون إليها فيطيرون شوقاً ويسرجون الدواب من أجل أن يصلوا إلى نعيم الكريم الوهاب، فإذن هنا الأبواب مفتوحة.
ولذلك كان الجلوس عند الباب مذلة، والأمير عندنا في الدولة الإسلامية لا يغلق باباً ولا يتخذ حجاباً، لأنه لو فعل هذا لأذل الرعية، ولما وصل إليه وإلى مجلسه إلا أناس مخصصون.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
عن بصر نبينا عليه الصلاة والسلام بحيث رأى بيت المقدس وهو في مكة، وأي غرابة في هذا؟ وهذا ما تفيده رواية الصحيحين [فجلى الله لي] أي أظهر وكشف وبين.
والأمور الثلاثة محتملة والعلم عند الله، فأي ذلك حصل حقيقة؟ لا يعلم ذلك إلا الله، وحقيقة هذه الآية أكبر شاهد على صدق نبينا عليه الصلاة والسلام في دعواه أنه أسري به، وأنه رسول الله حقاً وصدقاً.
¥