( ... وإذا أبيت ألاّ تطلب الارتباط فالظاهر أنه لما طال تبيان أحكام كثيرة متوالية: ابتداء من قوله: {يسألونك ماذا ينفقون} [البقرة: 215]، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذيلت به الآية السابقة وهو قوله: {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة: 237] فإن الله دعانا إلى خلق حميد، وهو العفو عن الحقوق، ولما كان ذلك الخلق قد يعسر على النفس، لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم، من مال وغيره كالانتقام من الظالم، وكان في طباع الأنفس الشح، علمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين، أحدهما دنيوي عقلي، وهو قوله: {ولا تنسوا الفضل بينكم}، المذكر بأن العفو يقرب إليك البعيد، ويصير العدو صديقاً وأنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنباً فيعفى عنك، إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق.
الدواء الثاني أخروي روحاني: وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلما كانت معينة على التقوى ومكارم الأخلاق، حث الله على المحافظة عليها.
ولك أن تقول: لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين، عقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر، قال البيضاوي: «أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها».
وقال بعضهم: «لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله» وهو في الجملة مع الإشارة إلى أن في العناية بالصلوات أداء حق الشكر لله تعالى على ما وجه إلينا من عنايته بأمورنا التي بها قوام نظامنا وقد أومأ إلى ذلك قوله في آخر الآية {كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} [البقرة: 239] أي من قوانين المعاملات النظامية)
4 - رأي الألوسي:
قال الألوسي:
{حافظوا عَلَى الصلوات} أي داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلال كما ينبىء عنه صيغة المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمر بها عقيب الحض على العفو، والنهي عن ترك الفضل لأنها تهيىء النفس لفواضل الملكات لكونها الناهية عن الفحشاء والمنكر، أو ليجمع بين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة عل خلقه، وقيل: أمر بها في خلال بيان ما تعلق بالأزواج والأولاد من الأحكام الشرعية المتشابكة إيذاناً بأنها حقيقة بكمال الاعتناء بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأن أولئك فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن وتوجهوا إلى مولاكم بالمحافظة على ما هو عماد الدين ومعراج المؤمنين.)
رأينا:
تركيب آية الصلاة مع ما قبلها وما بعدها ينتظم منه وجه بلاغي بديع، يمكن التعبير عنه ب"محاكاة الشكل للمضمون" أو "إيحاء المبنى بالمعنى"،ومفاده استحضار مضمون الكلام والإشارة إليه بواسطة الشكل باعتباره شكلا، أي بدون اعتبار دلالته الوضعية على المعنى ... ومثاله ما يسمى" الرسم بالكلمات" فتجد الكلمات تدل على موضوعها مرتين:
بواسطة الدلالات الوضعية العادية،وبواسطة توزيع الكلمات على صفحة الورقة بطريقة ترسم شكل رجل يسجد، أو حمامة طائرة، بحسب غرض النص.
وهذا الوجه البديعي مألوف من جهة الجرس والصوت في الشعر وغيره .. ومنه نماذج رائقة في القرآن:
مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)
فتتابع السينات في الآيتين يحاكي أصوات الوسوسة فعلا، مثل أصوات مبهمة صادرة عن هامس في إذن صاحبه ..
وتكرار الآيتين لمرات يكشف عن ذلك بوضوح ..
ومنه كلمة (اجْتُثَّتْ) في قوله:
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ..
فقد بينا في مكان آخر أن المقاطع الثلاثة للكلمة تصور المراحل الصوتية الثلاث لسقوط الشجرة المقتلعة:
أزيزانفصال الخشب عن الخشب مصور بمقطع"أججج"
احتكاك الاغصان والأوراق بالهواء وهي ساقطة مصور بمقطع:تثثث.
وارتطام الشجرة بالأرض الصلبة مصور ب"ثت" ..
لكن المحاكاة في آيات الطلاق والصلاة اتخذت مظهرا فريدا:
التعبير عن ترتيب المعنى في الحياة بترتيب الجمل في الآيات.
فلننظرمثلا حال المسلم:
هو منهمك في تجارته أو في مشاكل أبنائه أو غيرها من مشاغل الحياة .. ثم في غمرة الانشغال يرتفع النداء للصلاة. فلا يكون من أمر المسلم إلا أن يقطع فجأة ما في يده فيتوقف البيع وإمضاء العقود والحديث مع الأصدقاء وإن كان يكتب على الحاسوب يترك الجملة في منتصفها والمقال في شطره (بل هكذا ينبغي أن يفعل) ثم ينصرف إلى الصلاة ولا شيء غير الصلاة .. حتى إذا أنهاها عاد من جديد إلى إتمام العقد وتسليم البضاعة وتكملة الحديث وإنهاء المقال.
فالكلام عن الطلاق يقطع بأمر الصلاة ثم يستأنف الكلام عن الطلاق،فهذا أشبه ما يكون بانتشال المرء نفسه-حسب تعبير الشيخ دراز- من غمرات الحياة اليومية ليقضي حق ربه ثم يعود إلى ما كان عليه أو شبهه.
¥