. الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.
لحظة تقييد وإملاء الشروط ..
تضمنت صلة الموصول مواصفات الناجين وشروط الفوز .. وجاء العطف ب"الواو" وليس ب"أو" مما يعنى أن تلك الشروط على الجمع لا على التخيير .. فالناجي من الخسران هو المؤمن العامل الموصي بالحق والصبر .. يؤتى بذلك كله ولا يغني بعضه عن بعضه ... باختصار لا تكون النجاة إلا بإقامة الدين كله لأن تلك الصفات الأربع دلت على جهات الدين كلها. .. وقد انتبه الشافعي رحمه الله لهذا المعنى عندما قال: "لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم .. "
ولمعرفة غور قول الشافعي يستحسن الرجوع إلى التفسيرات المستفيضة لهذه السورة خاصة ما جرت به أقلام أئمة الدعوة رحمهم الله .. والمقام هنا لا يتسع لذلك.
هذه اللحظة يوازيها شعوريا الإحساس بالهم المصاحب للتشمير عن الساعد ..
فكأن السورة تقول:
"الخسارة عظمى،إلا أن النجاة ممكنة، لكنها بشروط."
فجمعت الإثبات والاستثناء والاستدراك ...
السورة يغلب عليها إذن طابع الإنذار ..
صحيح لقد فتحت بابا للأمل لكن ليس على مصراعيه فلا بد من اختبار ... ومن محاسبة.
ولا شك أن وقت العصر هو الملائم لهذه المعاني:
-فهو بداية النهاية .. فالشمس التي كانت تتوسط السماء في كامل قوتها هي الآن تضعف وتتجه في مسارها إلى مغيبها في نهاية الأفق ...
ويبدأ الإنسان عندئذ في التفكير في الرواح ... يصفي ما تبقى من تجارته أو يستجمع إبله وغنمه فلا يفكر ابتداء من اللحظة إلا في طريق العودة .. فلا يكون عنده –مثلا-هاجس الربح في التجارة فبعد العصر قد يبيع ما عنده بأقل من ثمنه ... لأن همه ليس في درهم يستزيده بل في طريق لا بد أن يقطعها في سباق مع الزمن .. فتهديد الليل أكبر بكثير من حصول الدرهم أو الدينار ... فمن الحصافة أن يتنازل عن وعد الغنم لوعيد الغرم!!
البدار البدار .... هذا هو المعنى الإنساني للعصر .. !
وهذه هي خلفية السورة التي أنشاهأ القسم بالعصر ... !
الآن-ونحن في عصر هذه المقالة! -أحب أن أشير إلى إمكانية استثمار المعنى المصدري للعصر.
قال في اللسان:
عَصَرَ العِنَبَ ونَحْوَهُ ممّا له دُهْنٌ أَو شَرابٌ أَو عَسَلٌ يَعْصِرُه بالكسر عَصْراً فهو مَعْصُورٌ وعَصِيرٌ واعْتَصَرَهُ: اسْتَخْرَج ما فيه.
فالعصر هو استخلاص للعصارة .. والعصارة هي أفضل ما في الثمرة فلا يبقى بعدها إلا القشور والنفايات التي تلقى جانبا عادة ..
وفي السورة ما يشبه هذا المعنى من استخلاص "العصارة البشرية "المتمثلة في الفئة الناجية ثم يركم الباقي مما لا فائدة فيه مصداقا لقول رب العزة:
{لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الأنفال37
لنلحظ الخسارة مذكورة في الموضعين!!
والحق أن للدكتورة عائشة عبد الرحمن-رحمها الله-الفضل في تنبيهنا إلى المعنى المصدري .. حين قالت في تفسيرها البياني لسورة العصر:
" ... إذ اللفت إلى ما يعتصر الزمن من خلاصة الإنسان بالضغط والمعاناة، فيكشف عن خيره أو شره"
غير أننا آثرنا تعميم المعنى على الإنسانية من حيث طبقاتها بدل الاقتصار عما يحدث في وجدان الفرد ... فضلا عن الاختلاف في معنى العصر فهي رجحت المعنى العام -أي الدهر- مستأنسه به ومطمئنة إليه ورأت أن العدول عن التعبير بالدهر إلى التعبير بالعصر للنكتة التي أشرنا إليها .. أما نحن فاخترنا للعصر معنى الوقت المحدد بين الزوال والغروب، ولك وجهة!!
هنا تنبيه أخير يتعلق باختيار الدكتورة عائشة .. فالعصر بالمعنى الزمني هو المقصود الأصلي والإشارة إلى المعنى المصدري تبعي فقط،للإيحاء بمعنى الاختبار والضغط .. ويضعف جدا أن نعتبر القسم بالعصر قسما بالمصدر استقلالا .. فنقول مثلا:المقسم به لفظ مشترك قد يقصد به الزمن وقد يقصد به مصدر العصر ..
ودليلنا على ذلك الضعف التدبر العمودي لأقسام القرآن .. فلم نجد القسم القرآني إلا بذوات ..
والله أعلم.
ـ[ابن عبد الغنى]ــــــــ[25 - 12 - 07, 01:33 ص]ـ
سبحان الله
ياواهب هذه الفيوضات سبحانك
زادك الله علما وفضلا شيخنا الكريم
ـ[إبراهيم الجزائري]ــــــــ[27 - 12 - 07, 10:39 م]ـ
بارك الله فيك أخونا الكريم أبو عبد المعز وزادك فهما وفقها في الدين
¥