ولا شك أنه، بما استطاع أن يتشرّبه من عادات الغرب في فرنسا، وبما اقتبسه من تقاليد الغرب منذ اقترن بزوجته الفرنسية في باريس، وأنجب منها ولده الذي أسماه اسما فرنسيا هو ((كلود)) _ لا شك أنه بذلك أقدر على تعليمنا كيف يكون التنكر للدين، والتقاليد، والقيم والفضائل الإسلامية.
ونحن نتساءل:
لمصلحة من، يشيع الدكتور في دراسته للعصر العباسي، أنه كله كان عصر شك وزندقة وفجور ومجون. ويتخذ من شعراء معينين ذوي ميول غزلية وجنسية أعلاما منشرة لهذا العصر كله، مسقطا من حسابه كل الاتجاهات الدينية والحماسية والحكمية وأشعار البطولة وأبيات الزهد .. الخ؟
لا غرو أن الناقد الذي يتخذ من كتاب الأغاني ونحوه مصادر رئيسية لنقده الذوقي وإنتاجه الأدبي - ويقضي جل أوقاته مع النتائج الرخيص لأبي نواس، ومسلم بن الوليد، ووالبة بن الحباب، وأمثالهم من شعراء العبث - لا يتوقع منه إلا أن يطلق هذه الغثاثات التي لا تثبت للنقد، ولا تستحق أن تناقش لأن زيفها واضح حتى للمبتدئين في دراسة الأدب.
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
اعتناقه مبدأ الشك الديكارتي
هل يمكن أن يصل الإنسان عن طريق الشك إلى اليقين؟
هذا هو السؤال الخطير الذي أجاب عنه طه حسين بالإيجاب. بل وجعل منه منهجا علميا، إلتزمه في دراساته الأدبية، وتعصب له تعصبا شديدا. والمهم أن نقرر كما قرر هو:
أن هذا المنهج لم يصطنعه من عند نفسه، بل جارى فيه الفيلسوف الفرنسي ((ديكارت)) صاحب ((الكوجيتو)) الفرنسي المشهور ..
(أنا أفكر، فأنا موجود .. ( je pense, donc je suis).
وإذا تأملنا هذا المنهج بعمق، ووقفنا عنده طويلا، لوجدناه يتضمن عمليتين ذهنيتين، إحداهما يقينية، وهي النقض أو الهدم.
وثانيهما محتملة، وهي البناء أو اليقين. فالمفكر الفرنسي يفرغ ذهنه تماما من أي فكرة معارضة أو مؤيدة لموضوع بحثه، ثم يبدأ في محاولة البناء من جديد، وهي عملية أشبه ما تكون بالولادة العسرة. فالهدم أسهل ما يكون بضربة معول، بينما البناء يتطلب أدوات وخبرات عديدة ووقتا طويلا وعملا شاقا حتى يرتفع البناء مرة أخرى.
ثم إن هناك مدى محدودا يمكن أن يتحرك فيه هذا المبدأ الشكاك. أما إذا اقتربنا من المقدسات الدينية، والنصوص الثابتة من الكتاب أو السنة. فأي منطق يجيز لمفكر أو باحث مهما علا كعبه في ميدانه أن يستخدم مبدأ الشك الديكارتي كما يستخدم الجراح المشرط في تشريح النصوص وتمزيقها وتفريق وحدتها وهدم مضموناتها؟ إن دون ذلك خرط القتاد!.
لقد بلغ هَوَس الدكتور بتطبيق مبدأ الشك أن جرّبه في كل شيء ..
- في إنكار الشخصيات التاريخية، حتى وإن أثبتها القرآن والتوراة والإنجيل. كما فعل في إنكار الوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
- في النسب الصحيح للشاعر المتنبي حين ادعى أنه لقيط!
- في الحقائق الثابتة .. حين أنكر عروبة مصر وساق الأباطيل التي يرددها المستشرقون لتأييد هذا الإنكار.
- في وجوب تعظيم النسب الشريف، حين قال: "فلأمر ما، اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي، وأن تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفو الإنسانية كلها"!
- في إنكار الشعر الجاهلي جملة وتفصيلا وهو ديوان العرب، ومصدر ثقافتهم وموضع فخرهم وسجل انتصاراتهم، وتاريخهم المنبئ بأحوالهم في سلمهم وحربيهم، في حلهم وترحالهم، في غدوهم ورواحهم.
وفي معرض الرد على مذهب الشك الذي انتهجه طه حسين يقول الأستاذ الغمراوي: "إن الغرب نجا من أن يحاول هدم تاريخه أو تاريخ لغاته هادم عن طريق الشك غير العلمي: لسيادة الرأي العلمي فيه .. واستحواذ الروح العلمي على أهله .. أما الشرق، فليس له مثل هذين السياجين يردّان عنه عادية هذا الباطل الذي يهاجمه باسم الحق، ولا هذا الشك الذي يريد أن يداخله باسم العلم، ولا هذا الهدم والتعطيل اللذين يكرّ عليه بهما نفر من أهله باسم التجديد! ومهما يكن من موقف المؤرخين في الشرق أو في الغرب حيال مبدأ الشك المطلق فإن العلماء لا يأخذون به، وإن العلم لا يقرّه ولا يمكن أن يقره .. ".
¥