الثالث: التعليم المدرسي
وهو خاص بالصغار ومنظم تنظيما حديثا في مكانه ومادته وطبقاته وأسلوبه فاذا دخل التلميذ المدرسة وهو من تلاميذ الفرنسية أيضا لم يجد فارقا ينقص من قيمة المدرسة في نفسه بل قد يؤثرها على المكتب الفرنسي فقد لاحظت وأنا مدير مدرسة (الأغواط) من التلاميذ من يكثرون التخلف عن المكتب الفرنسي ولا يتأخرون عن المدرسة
وقد انتشر التعليم المدرسي في هذا الدور بالحواضر والقرى وأخذ يدخل البوادي ولولا العرقلة لعم الوطن كله ولأصبحنا في أزمة تعليمية من قلة المعلمين لا من زهادة المتعلمين
وهذا الاندفاع للتعليم المدرسي الحر سببه تمسك الشعب باسلامه وعروبته ومشاهدته لقرب النتائج ويسر الثمرات أما مستقبل المتعلم فموكول الى الاقدار
على أن التعليم المدرسي لا يزال ابتدائيا وغير مؤثر في الأمة تأثيرا بينا والتلميذ المستغني عن المدرسة الحرة اذا أراد مواصلة سيره نحو الوظيفة التحق بالمدارس الرسمية واذا أراد تكميل معلوماته الاسلامية التحق بجامع الزيتونة
وقد يكون في الطرف الغربي فيذهب الى جامع القرويين
ولا يزال التعليم مسجديا أو مدرسيا في حاجة الى التنظيم و التحسين والتوسيع ومنذ تأسست (جمعية العلماء) اهتمت بالأمر فشكلت في عامها الأول لجانا علمية وأدبية ووعظية مزجت فيها بين العالم المصلح والطرقي ثقة منها بان الفكر هو الذي يؤثر في الجامد ولم تخش داء الجمود ان يصيب المصلح على خلاف قول الأول:
ولا ينفع الجرباء قرب سليمة ... اليها ولكن السليمة تجرب
غير أن هذا المزج قعد بالمشروع في مكانه وجاءت فتن الطرقية للاستحواذ على الجمعية فنفتهم عنها وتوجهوا للحكومة يكيدون عندها للجمعية وحاولت الجمعية مرارا تنفيذ المشروع فأعادت النظر فيه وعقدت المؤتمرات وشكلت اللجان ولكن فلة المال وكثرة المشاغبات وحدوث الحركة كل ذلك عسر التنفيذ وزهد شباب العلماء في المغامرة ولولا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه لارتكست الحركة وكان رد فعل ولكنها –ولله الحمد- ثبتت ولم تقف في مكانها غير أن سيرها الىن بطيء ولعل في هذا البطيء تمكينا لها
وان من مميزات هذا الدور أن أصبح العلم مبنيا على الدليل والأدب مشاركا في الحياة معبرا عن روح العصر في عرض رغائبها وتسجيل حوادثها وأن أصبح المتعلم و المتأدب متجهين الى خدمة المجتمع بالوعظ والتذكير والتربية والتعليم وتناول الحسن والقبيح بالتصوير وأن اتجه الشعب نحو كتابه وحديث رسوله يرجع اليهما في وزن عقائده ويأخذ بهما في صور عبادته وأن تضاءلت الطرقية أمام حركة الاصلاح من ناحيتها العلمية والأدبية والسلب عمل الضعيف
وكشف هذا الدور عن موهبة الجزائري في ميادين الخطابة والصحافة والتأليف فظهر خطباء ارتجاليون مقتدرون على اقناع السامعين بنظراتهم وآرائهم ورأينا كتابا موفقين في تفكيرهم محسنين في تعبيرهم وقرأنا ـآليف مهذبة في التاريخ والأدب وغيرهما
على أن فشو الأمية وعوارض كل حركة حديثة مما يحمل موهبة الجزائري فوق ما حصل خنها الآن فالخطابة تعوزها حرية الاجتماع والتفكير والصحافة تنقصها حرية النشر ووجود الشركات والتأليف يقعد به قلة المطابع وكثرة النفقات وضعف الرغبات
ان هذا الدور خير مما قبله بدرجات تفوق درجات الجماعة على الفذ ولكنه لم يفقد كل العيوب فيما قبله
وقد كان لهذا التطور عوامل وأسباب عامة وخاصة وأخصها وأهمها بالموضوع هو أن قيادته بيد خريجي جامع الزيتونة الذي أقبل الجزائريون عليه اقبالا لا يقارنه الا اقبالهم على الجامع الأخضر بقسنطينة حيث يعلم امام هذا الدور الأستاذ عبد الحميد ابن باديس على أن الجامع الأخضر ينتسب في عهده هذا الى الجامع زيتونة
رجحت في هذا الدور كفة جامع الزيتونة على كفة جامع القرويين فقسنطينة المتصلة بتونس هي رأس الحركة الحاضرة والجهات الغربية من عنل الجزائر ووهران قد تعرفت أيضا الى جامع الزيتونة ولم يبق للقرويين الا بعض الطلبة على حدود فاس قعد بهم عن جامع الزيتونة ما قعد بسحنون عن ادراك مالك
ومما بقي من آثار هذا الدور القديم فقد الأدب لاستقلاله عن العلم الديني فما زال الأدب مراعى فيه وقار العلماء وعفافهم ولو أن هذه المراعي تخرج لنا أدباء متدينين لكانت الخسارة على الأدب وحده ولكنها تجعل مبالغات الأديب حقائق وتصوراته فتاوى ومدائحه عقائد فكانت الخسارة علمية أدبية
نعم لنا أدباء صدقوا في تدينهم وأخلصوا في تصوير شعورهم ولم يزالوا في عنفوان شبابهم فمثلهم من يرجى لخدمة مجتمع لا يفرق جمهوره بين العربية والاسلام ولا بين الشعور والاعتقاد ولا بين الخيال والواقع
واذا كانت حركتنا حديثة فلا يضيرها أن توحد بين العلم والأدب فان الاستقلال انما يكون بالتخصص والتخصص آية اكتمال الحركة ونضوجها
ميلة الجزائر (المنهل) 1938 عن كتاب الشيخ مبارك الميلي حياته العلمية ونضاله الوطني تأليف ابنه الأستاذ محمد الميلي نشر دار الغرب الاسلامي
¥