(قد أظلّهم عصر (التجديد) وأنّ الأدب القديم يجب
(أن يترك للشيوح الذين يتشدّقون بالألفاظ ويملأون
(أفواههم بالقاف والطاء وما أشبههما من الحروف الغلاظ
(وأنّ الإستمساك بالقديم جمود والإندفاع في الحياة إلى
(أمام هو التطوّر وهو الحياة وهو الرقي. هذا الشاب
(وأمثاله ضحية من ضحايا الحضارة الحديثة لأنه لم يفهم
(هذه الحضارة على وجهها ولو قد فهمها لعلم أنها لا تنكر
(القديم ولا تنفر منه ولا تنصرف عنه وإنّما تحببه وترغّب
(فيه وتحثّ عليه لأنّها تقوم على أساس منه متين ...
(هذا الشابّ ضحية من ضحايا الحضارة الحديثة
(أو من ضحايا جهل الحضارة الحديثة وشرّه ليس مقصورا
(عليه وغنّما يتجاوزه إلى غيره من الناس. فهو يتحدّث
(وهو يعلّم وهو يكتب وهو في هذا كلّهينفث السمّ
(ويفسد العقول ويمسخ في نفوس الناس المعنى الصحيح
(لكلمة (التجديد) فليس التجديد إماتة القديم
(وإنما التجديد في إحياء القديم وأخذ ما يصلح منه للبقاء.
(وأكاد أتّخذ الميل إلى إماتة القديم أو إحيائه في
(الأدب مقياسا للذين انتفعوا بالحضارة الحديثة أو لم
(ينتفعوا بها فالذين تلهيهم مظاهر الحضارة عن أنفسهم
(حين تلهيهم عن أدبهم القديم لم يفهموا الحضارة الحديثة
(ولم ينتفعوا بها ولم يفهموها على وجهها وإنّما اتّخذوا
(منها صورا وأشكالا وقلّدوا أصحابها تقليد القردة
(لا أكثر ولا أقلّ ..
(والذين تلفتهم الحضارة الحديثة إلى أنفسهم وتدفعهم
(إلى إحياء قديمهم وتملأ نفوسهم إيمانا بأن لا حياة لمصر
(إلاّ إذا عنيت بتاريخها القديم وبتاريخها الإسلامي
(وبالأدب العربي قديمه وحديثه عنايتها بما يمس حياتها
(اليومية من ألوان الحضارة = هم الذين انتفعوا وهم
(الذين فهموا وهم الذين ذاقوا وهم القادرون على أن
(ينفعوا في إقامة الحياة الجديدة على أساس متين).
وهذه الشهادة من أحد الأساتذة الكبار الذين سنّوا لمن بعدهم السنن في الحياة الأدبية وفي مناهج تفكيرها شهادة مهمّة جدا لتاريخ الحياة الثقافية التي امتدّت بعدهم إلى يومنا هذا بل هي تكشف عن جذور التدمير المفزع الذي يشمل اليوم المجتمع العربي كلّه حيث تنطق العربية .. لا بل حيث يدين غير العرب بالإسلام ويوجب عليهم إسلامهم أن يضعوا العربية في المقام الأوّل لأنّ إسلامهم لا يكون إسلاما إلا بالقرآن وهو الذي نزل عليهم بلسان عربي مبين وإلاّ بسنّة الرسول الأميّ العربيّ صلى الله عليه وسلم وهي أيضا بلسان عربي مبين.
وليس من همّي هنا أن أفسر هذه الشهادة ولا أن أوضّح مدى صدقها حيث صدق توقع الدكتور في تكاثر عدد من وصفهم من (المثقفين) في شهادته وأخشى أن أقول إن هذه الصفة على نقصها تشمل عامة المثقفين في زماننا هذا إلى سنة 1977 = ولكن الذي يجب عليّ أن أقوله: إن شهادة الدكتور على اختصارها إنّما هي وجه آخر لشهادتي التي كتبتها هنا قالها هو من موقع (الأستاذية) وقلتها أنا من موقعي بين أفراد جيلي الذي أنتمي إليه وهو جيل المدارس المفرّغ من كلّ أصول ثقافة أمته وهو الجيل الذي تلقّى صدمة التدهور الأولى حيث نشأ في دوّامة من التحوّل الإجتماعي والثقافي والسّياسي كما أشرت إليه آنفا [ص: 161].
ثمّ قلت في ختام ما سميته (لمحة من فساد حياتنا الأدبية) [كتاب المتنبي: 122 - 123]:
أمّا الآن فإنّي أتلفّت إلى الأيام الغابرة البعيدة حين كنت أشفق من مغبّة السنن التي سنّها لنا الأساتذة الكبار كسنّة (تلخيص) أفكار عالم آخر ويقضي أحدهم عمره كاملا في هذا التلخيص دون أن يشعر بأنّه أمر محفوف بالأخطار ودون أن يستنكف أن ينسبه لنفسه نسبة تجعله عند الناس كاتبا ومؤلفا وصاحب فكر هذا ضرب من التدليس كريه. ومع ذلك فهو أهون من (السطو) المجرّد حين يعمد الساطي على ما سطا عليه فيأخذه فيمزقه ثمّ يفرّقه ويغرقه في ثرثرة طاغية ليخفي معالم ما سطا عليه وليصبح عند الناس صاحب فكر ورأي ومذهب يعرف به وينسب كلّ فضله إليه. ومع ذلك فهذا أيضا أهون من (الإستخفاف) بتراث متكامل بلا سبب ولا بحث وبلا نظر ثم دعوة من يعلمون علما جازما أنه غير مطيق لما أطاقوا إلى الإستخفاف به كما استخفّوا. ومع ذلك أيضا فهذا أهون مما فعلوه وسنّوه من سنّة (الإرهاب الثقافي) الذي جعل ألفاظ (القديم) و (الجديد) و (التقليد) و (التجديد) و (التخلف) و (الجمود) و (التحرر) و (ثقافة الماضي) و (ثقافة العصر) = سياطا ملهبة بعضها سياط حث وتخويف لمن أطاع وأتى وبعضها سياط عذاب لمن خالف وأبى.
أتلفّت اليوم إلى ما أشفقت منه قديما من فعل الأساتذة الكبار .. لقد ذهبوا بعد أن تركوا من حيث أرادوا أو لم يريدوا حياة أدبية وثقافية قد فسدت فسادا وبيلا مدى نصف قرن وتجدّدت الأساليب وتنوّعت وصار (السطو) على أعمال الناس أمرا مألوفا غير مستنكر يمشي في الناس طليقا عليه طيلسان (البحث العلمي) و (عالمية الثقافة) و (الثقافة الإنسانية) وإن لم يكن محصوله إلاّ ترديدا لقضايا غريبة صاغها غرباء صياغة مطابقة لمناهجهم ومنابتهم ونظراتهم في كلّ قضية واختلط الحابل بالنابل قل ذلك في الأدب والفلسفة والتاريخ والفن أو ما شئت فإنّه صادق صدقا لا يتخلّف. فالأديب منّا مصوّر بقلم غيره والفيلسوف منا مفكّر بعقل سواه والمؤرّخ منّا ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه والفنّان منّا نابض قلبه بنبض أجنبي عن تراثه وفنّه.
وأمّا الثرثرة والإستخفاف فحدّث ولا حرج فالصبيّ الكبير يهزأ مزهوّا بالخليل وسيبويه وفلان وفلان ولو بعث أحدهم من مرقده ثم نظر إليه نظرة دون أن يتكلّم لألجمه العرق ولصار لسانه مضغة لا تتلجلج بين فكّيه من الهيبة وحدها [دون] علمه الذي يستخف به ويهزأ.
والله المستعان على كلّ بلية وهو المسؤول أن يكشفها وهو كاشفها بمشيئته رحمة بأمّة مسكينة هؤلاء ذنوبها وأشباه لهم سبقوا وغفرانك اللهمّ.
الأحد 25 من ذي القعدة سنة 1397 .. 6 من نوفمبر سنة 1977
أبو فهر
محمود محمّد شاكر