ويحصل ضبط الحروف من هذه الجهة بمعرفة مخارج الحروف وصفاتها، وأخص ما يُدرسُ في صفات الحروف ما له أثر في النطق، كالهمس والجهر، والشدة والرخاوة والتوسط، والاستفال والاستعلاء، والقلقلة. أما غيرها مما لا أثر له في النطق، خصوصًا صفة الذلاقة والإصمات، فإنها مما لا يدخل في النطق، وليس لها أي أثر فيه.
وليُعلم أن دراسة مخارج الحروف وصفاتها ليس مما يختص به علم التجويد، بل هو مما يُدرس في علم النحو واللغة؛ لأن كلَّ كلام عربي (من كلام العرب أو كلام الرسول ? أو كلام الله سبحانه) لا يخرج عن هذين الموضوعين، ولهذا تجد أن أعظم كتابٍ في النحو، وهو كتاب سيبوية قد فصَّل هذه المسألة، ومن تكلم في المخارج والصفات وما يترتب عليهما من الإدغام، فهم عالة عليه.
والذي يتخلَّصُ من هذا: أن دراسة المخارج والصفات لازمة لكل كلام عربيٍّ، لكي يُنطق به على وجه العربية.
ثانيًا: أن هذا العلم ككل العلوم الإسلامية من جهة ظهور التأليف فيه، إذ ليس كل العلوم الإسلامية مما قد تشكَّل وظهرت مسائله في جيل الصحابة أو التابعين وأتباعهم، بل إن بعضها مما تأخر ظهوره، ولم يُكتب فيه إلا متأخرًا، وإن كانت أصوله مما هو معروف محفوظ عند السلف، سواءً أكان ذلك مما هو مركوز في فطرهم ومن طبائع لغتهم كعلم البلاغة، أم كان مما تكلموا في جملة من مسائله، ثم دون العلم فيما بعد، كعلم الأحكام الشرعية.
وعلم التجويد مما كان مركوزًا عندهم بالفطرة والتعلم، فالفطرة؛ لنهم عربٌ خُلَّصٌ، والتعلم، لقوله ?:» خذوا القرآن عن أربعة ... «، فظهر أنَّ الرسول ? لم يكتفِ بسليقتهم العربية في قراءة القرآن، بل أرشدهم إلى قراءته على الهيئة التي نزل بها، ولذا قال:» من احب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أًُنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبدٍ «، وهذا يدل على أنَّ له هيئة قرائية مخصوصة يعلمها بعض الصحابة دون بعض، وفيها زيادة عما يعرفونه من سليقتهم العربية، وإلا لما مكان لتخصيص الأربعة، ولا لتخصيص ابن مسعود في الحديث الآخر أيُّ مزيَّة على بقية الصحابة، والله أعلم.
ومن زعم أنه لا يجب الأخذ بالتجويد، وان العربي في هذا العصر يجوز له القراءة على سليقته العربية، فإنه يشبه من سيزعم أنه لا يلزم الناس تعلم النحو، وأنهم عرب، فيجوز لهم أن يتكلموا بسليقتهم.
فإن قيل: إنَّ ألسنة الناس قد فسدت منذ جيل التابعين ومن بعدهم، وصار تعلم النحو لازمًا لمن أراد أن يعرف العربية، وأن من يزعم اليوم أنه عربي، ولا يلزمه تعلم النحو إنما هو ذو رأي فائل، وقول باطل.
فيقال: إن فساد ألسنة الناس بالعربية قد جرَّ إلى فساد ألسنتهم في أداء القرآن، ولإن كان الإنكار على من لا يرى دراسة النحو اكتفاءً بعربيته المعاصرة، فإن الإنكار على من يزعم أنه يكفي في قراءته عربيته المعاصرة كذلك.
ثمَّ يقال له: من أين لك في عربيتك أن تقرأ برواية حفص عن عاصم» مجريها «بالإمالة؟
فإن قال: لأنها هكذا رويت عنه، وأن أقرأ بقراءته؟
قيل له: فقد روي عنه الأداء (التجويد) الذي تخالف فيه ولا تراه علمًا، فَلِمَ قبلت روايته في هذا وتركته في ذاك؟
أليس هذا من قبيل التَّحكُّم، والتَّحكُّم ـ كما قال الطبري ـ: لا يعجز عنه أحد.
ثالثًا: إنَّ بعض علم التجويد (الأداء) لا يمكن أخذه من طريق الصُّحِفِ البتة؛ لأنه علم مشافهة، وما كان من طريق المشافهة فإنه مما ينقله الآخر عن الأول، ولا مجال للرأي في المشافهة.
واعلم أن مما يميِّز بحث القراء المجودين في هذا المجال عما تجده في كتب النحويين واللغويين أن ما عند المجودين منقول بالمشافهة إلى يومنا الحاضر، أما ما يذكره النحويون واللغويون من المباحث اللفظية التي يذكرونها مما يتعلق بكيفية النطق فإنه لا يمكن معرفة كيفية النطق بها؛ لأنه مما لا يُعرف بالقياس، ولا يُدرك بغير المشافهة، وليس لك فيها إلا نقل الكلام المدون دون كيفية نُطقِه.
رابعًا: إن علم التجويد كغيره من العلوم الإسلامية التي دوَّنَها علماء الإسلام وضبطوا أصولها، فتجد أن تقسيم العلم ومصطلحاته الفنية مما يدخلها الاجتهاد.
¥